Top Ad unit 728 × 90

ابرز الأخبار

اخبار

دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ـ ( الجزء الأول )

دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ـ ( الجزء الأول )
بحث قانوني
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
يقتضي الحديث عن القوانين ، التطرق إلى مجموعة من المواضيع المتشابكة و التي تتداخل فيما بينها بحكم اختلاف الرؤى التي يُنظر منها إلى تلك القوانين . و تزداد أهمية التشابك عندما يتعلق الأمر بقوانين من شأنها المساس بالحريات الأساسية للأفراد داخل نظام اجتماعي معين . لذلك نجد أن الأبعاد السياسية و الإيديولوجية و الثقافية و غيرها بما في ذلك المؤسساتية تسجل حضورها القوي على ساحة النقاش .
 و غَيرُ خَفِيٍّ على صناع القرار القانوني أن فكرة العيش المشترك تفرض نفسها في التعامل مع مختلف الحساسيات التي تساهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في رسم معالم القانون عموما و القوانين الماسة بالحريات على وجه الدقة . لذلك كان حريا بتلك الجهات أن تحاول ضمان الحد الأدنى – على الأقل – من التفاهم بين تلك الرؤى . و هو ما ينطبق تماما على القوانين ذات الصلة بالمجال الجنائي ، على اعتبار أن تلك القوانين تعتبر القلب النابض الذي يدل على حياة أو ممات النظام القانوني لكل دولة التزمت أمام المنتظم الدولي بالمعايير الكونية لحقوق الإنسان مع اعتبار الخصوصية الهوياتية لمجتمعاتها .
 و تأتي القوانين المتعلقة بالإجراءات الجنائية في طليعة القوانين اللصيقة بحقوق الإنسان سواء ما تعلق منها بالمتهم أو الضحية مجتمعا كان أو فردا على السواء ؛ لذلك فإن العمل على تبني فكرة ” التعاقد  القانوني ” بشأن صياغة بنود هذا القانون تجسد عمق الالتزام بمبدأ التشاركية داخل الأنظمة التي تسعى إلى تطوير ذاتها من خلال آليات و وفق سقوف حددتها مجموعة من المعايير منها ما هو حقوقي ، ومنها ما هو دستوري أو تشريعي بالمفهوم العام ، و منها ما هو مؤسساتي و غير .
 و لعل الحقبة  التي يعرفها المغرب ؛ خلال مرحلة ما بعد دستور 2011 ؛ لا تزال تعرف مخاضا عسيرا بخصوص تبلور فكرة التشاركية التي هي جوهر التنزيل الديمقراطي لبنود ذلك الدستور ، و يظهر ذلك من خلال انتهاج فكرة المبادرة في صياغة بنود مسودات القوانين من قبل الجهات التقليدية و طرحها على العموم من أجل مناقشتها .
 قد يقول قائل أن هذه الخطوة – أي طرح مسودات القوانين للنقاش العمومي – مسألة مستحبة على اعتبار أن تجربة حديثة بالمغرب ، غير أن مشاطرتنا لاستحبابها لا يعني التغاضي على بعض عيوبها التي تبقى في نظرنا قاتلة . ذلك أن القوانين باعتبارها نابعة من المجتمع يجب أن تُسبَق صياغتُها بنقاشات عمومية حول مختلف المحاور التي يتوجب أن تتضمنها تلك القوانين ، و هو ما لا يتحقق بالاستفراد بطرح المسودات قبل نشرها للعموم من أجل النقاش . زد على ذلك أن فكرة إعداد المسودات في ذاتها في غياب وسائل الإعلام و كذا في غياب المشاركة الفعالة و الواسعة لأهل الاختصاص تجعل من مناقشتها أمرا عسيرا ، إذ بدل أن تكون بنود تلك القوانين معبرة تعبيرا حقيقيا عن الرؤية المجتمعية و البيئة التي ستطبق فيها ، فإن عرضها للنقاش يحصر هذا الأخير في النطاق الذي أُعِدت فيه تلك المسودات دون إمكانية تجاوزه .
 و لعل ما قيل ينطبق تماما على مسودة قانون المسطرة الجنائية التي تم الكشف عنها من قبل وزارة العدل و الحريات بموقعها الرسمي يوم 08 ماي 2014، إذ أن استئثار الوزارة الوصية بصياغة بنود المسودة فيه نوع من الحصر لمواضيعها و نطاق الحقوق التي يجب أن تتضمنها ، و لا يكفي القول بتكوين لجنة من المختصين من قضاة و محامين و أساتذة جامعيين و أعشاء بالشرطة القضائية من أجل صياغة بنودها للقول بفكرة التشاركية في وضع مضامينها . فتكوين لجنة من قبيل من ذكر يجب أن يكون لاحقا على فكرة التشاركية ؛ إذ يجب أن تكون مهمة تلك اللجنة صياغة ما تم الاتفاق عليه بعد نقاش اجتماعي عميق و ليس تقريرا لأمر ما ثم طرحه للنقاش ؛ فالرؤية بهذه الصورة تبقى معكوسة و لا تلبي روح و منطوق الدستور الذي أتى بمجموع من الآليات الجديدة التي تكرس دور المواطن و الجمعيات في صناعة القرار القانوني ، و لعل أهم تلك الآليات نجد ” الملتمسات التشريعية ” ؛ إذ أن هذه الأخيرة تعتبر بالفعل آلية تشاركية حقيقية تبرز الصفة الاجتماعية للقاعدة القانونية ،  و هي الآلية التي كان على الحكومة إخراجها أولا من أجل إتاحة الفرصة للمواطنين و جمعيات المجتمع المدني لإبراز وجهات نظرهم في القضايا التشريعية برمتها سواء أكانت تلك القضايا اجتماعية عامة كما هو الحال بالنسبة لبنود و مقتضيات قانون المسطرة الجنائية أو قطاعية كما هو الحال بالنسبة لبعض القوانين التي تهم قطاعا بعينه .
إن الاستئثار بصناعة القرار القانوني و التشريعي و احتكاره لم يعد أمرأ مقبولا في ظل مقتضيات دستور 2011 الذي شدد جلالة الملك على أن يتم تنزيله بروح ديمقراطية تشاركية محترمة لروحه و منطوقه . لذلك فإن إثارتنا لهذه المسألة أملتها ظرفية الوضع و ضرورة التمهيد من أجل المساهمة في النقاش الدائر حول بنود مسودة قانون المسطرة الجنائية . و محاولة منا للفت نظر الجهات المسؤولة من أجل تفادي هذه المنهجية التي نراها مجانبة للصواب في هذه الظرفية التي يمر منها المغرب و التي يسعى من خلالها إلى امتلاك ترسانة قانونية و تشريعية قوية بانفتاحها على القيم الكونية لحقوق الإنسان و بمحافظتها على خصوصية القيم الاجتماعية الراسخة.
في البدء تصور تشريعي :
إن آلية صناعة القرار القانوني معقدة لدرجة أن مسارها طويل ، فلا يعقل أن تصاغ قوانين قد تدوم ردحا من الزمن في ظرف وجيز . ذلك أن أي قانون كيفما كان نوعه لابد له من تصور أولي يستند عليه . و هذا التصور لا قيمة له إذا لم يكن نابعا من المجتمع و فعالياته الحية سواء المهنية أو الحقوقية المدنية . و كما هو معلوم فإن الحديث عن التصور هو حديث مباشر عن تلاقح رؤى و أفكار قد تصل حد التناقض ، تتلاقى فيما بينها من أجل إيجاد أرضية مشتركة تجسد الحد الأدنى من التفاهم الممهد للسلم  الاجتماعي . و لذلك فإن أن قانون مهما بلغت أهميته يجب أن يكون ثمار تصور مجتمعي ، بحيث يكون هذ التصور هو الضابط الأساسي من أجل الحكم على مسودته بالتزامها أو عدم التزامها بالسقف الاجتماعي المتفق عليه .
و لعل ما يظهر لكل باحث أو مطلع أن المسودة التي تقدمت بها وزارة العدل و الحريات بشأن قانون المسطرة الجنائية لا أرضية لها ؛ الشيء الذي يترك الباب مفتوحا أمام كل التأويلات حول التوجهات العامة التي تحكم ما ورد بالمسودة المذكورة و ما يُعتزَم إدخاله في صلب قانون المسطرة الجنائية ضمانا للمحاكمة العادلة .
إن أي قانون لابد له من ديباجة ترافقه منذ أول ظهور له ، إذ أن تلك الديباجة هي التي تعطى للباحث و الناقد الإشارات التي تمكنه من الحكم على ما يعتزم المشرع سنه من قواعد. إذ هي ما سيمكن ذلك الباحث و الناقد من ضبط مدى انضباط البنود و المقتضيات الواردة بالمسودة مع ما تضمنته الديباجة ، كما أنها هي ما يمكن أن يرتكز عليه في تسليط الضوء على جوانب النقص في الأرضية المجسدة للتصور ذاته . و بالرجوع لمسودة قانون المسطرة الجنائية موضوع الحديث نجد أن وزارة العدل و الحريات لم ترفقه بالديباجة التي أطرت عمل ” لجنة صياغته ” ، الشيء الذي يطرح أكثر من تساؤل حول الموجهات العامة التي أطرت الجهود التي أثمرت هذا العمل .
إن التركيز على وضع و صياغة تصور معين يؤطر الخطوات الأولى لوضع تشريع ما ، إنما نعتبره المفتاح الرئيسي و الأرضية المشتركة للتوافق الاجتماعي حول القيم التي يجب على القانون الجديد أن يحميها و يضع القواعد لصيانتها . لذلك فإن هذا التصور هو ما يشكل الإطار العام للقانون .
فلا يمكن القول بكون الاستناد على الدستور و المواثيق الدولية التي صادق المغرب عليها و إدماج مقتضياتها في التشريع الوطني  ، هي الأرضية التي أطرت عمل اللجنة . ذلك أن مثل ذلك القول يضع على المحك نظرة واضع المسودة لمجموعة من الآليات سواء اللغوية أو الدلالية كوسائل تقنية  مهمة في بناء القاعدة القانونية . إذ ما ذكر لا يعدو أن يكون منطلقات يجب أن ننطلق منها لتحديد المدى و النطاق الذي سنلتزم له في وضع قواعد و مقتضيات القانون الجديد . و إلا فإن القول بكون المقتضيات الدستورية و الاتفاقيات الدولية هي المؤطر لعمل لجان وضع القوانين يستلزم بالضرورة التقيد الحرفي بما تأتي به تلك المقتضيات و الاتفاقيات ، وهو ما لا يتحقق في أي قانون يبقى قابلا للتطوير من أجل الرقي إلى أقصى حد في المطابقة مع ما ذكر .
صحيح أنه من المتوقع أن تأتي بنود مسودة قانون ما متطابقة مع ما تمليه المقتضيات الدستورية ، و إلا كانت بنود ذلك القانون معرضة للطعن بعدم الدستورية ، غير أن المقتضيات الدستورية بصفة عامة بدورها يكتنفها الغموض في كثير من الحالات ، و على رأسها تلك المقتضيات التي نسميها بالمقيدة ؛ و هي المقتضيات التي ترك الدستور نفسه أمر تنظيمها للقانون ، , هي على كل حال كثيرة و متعددة في الدستور المغربي و قد أشرنا لنسقها العام في مقال ” الحق في المحاكمة العادلة بين الاتفاقيات الدولية و مقتضيات دستور 2011 ” و هو الأمر الذي يجعل مسألة الارتكاز على الدستور كأرضية لعمل اللجنة بدوره محل تساؤل .
إن القراءة المتأنية لما جاءت به المسودة لتؤكد على أن فكرة التصور القبلي كان غائبا عند واضعي المسودة و هو ما سوف نتناول بعض ملامحة فيما سيأتي ، و إلا فإن وجود ذلك التصور كان من المفترض نشره مع المسودة ذاتها لقطع الطريق على كل انتقاد في هذا الصدد . و تأسيسا على ذلك ، يمكن طرح التساؤلات التالية :
إلى أي حد استطاع واضعو المسودة تمثل الحقوق و الحريات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية بغرض إدماجها في القانون الوطني ؟ و ما هي معايير و ضوابط ذلك التمثل و الإدماج ؟
ما هي الحدود الدستورية التي توخاها واضعو مسودة القانون ، و التي من شأنها أن تقيَ مقتضيات القانون في حالة إقراره من طرف السلطة التشريعية من شر الطعن بعدم الدستورية ما لم يبسط المجلس الدستوري رقابته القبلية عليه ؟
إلى أي مدى استطاع واضعو المسودة استلهام التجارب التشريعية الأجنبية الرائدة عند صياغة بنود المسودة ؟ و يترتب عن هذا التساؤل تساؤل ملازم له يتجسد في مدى ارتباط واضعي المسودة بالنهج التشريعي ل” المصدر التاريخي ” للقاعدة القانونية المغربية الحديثة  – و نقصد به هنا التشريع الفرنسي – ؟ و هو ما يترتب عنه تساؤل منطقي حول ما إذا كان من الأجدر بنا أن نتبنى أفضل و أنجح التجارب الدولية و لو لم تكن على علاقة أو صلة ب ” المصدر التاريخي ” المذكور، و لم لا ابتكار القاعدة القانونية  المغربية النابعة من عمق التجربة المغربية مادامت لا تتعارض مع ما جاء بالاتفاقيات الدولية و لا تقَوِض أسس مقومات الهوية الوطنية الراسخة ؟
إن طرح مثل هذه التساؤلات و غيرها و وضع أجوبة صريحة عنها لهو الطريق الأمثل لوضع اللبنات الأولى لتصور رصين يؤسس لقانون ذو نفَسٍ طويل تتجسد فيه معالم الطابع المغربي المنفتح على التجارب الإنسانية و المحافظ على الخصوصية الاجتماعية . و لذلك فإن قراءتنا لمسودة قانون المسطرة الجنائية جاءت في غياب وجود تصور مؤطر  و ناظم لعمل الجهة الواضعة للمسودة .
من مقومات التصور التشريعي :
ينبني التصور التشريعي على مجموعة من المقومات ، منها ما هو إنساني ، و منها ما هو اجتماعي و منها ما يتعلق بالجانب الحقوقي ، و لا يمكن التفريط في الأبعاد السياسية و الإيديولوجية و الفكرية التي تختزلها القاعدة القانونية كيفما كانت طبيعتها . و كل ذلك يدخل في نطاق منظومة من القيم لا يجب التفريط فيها أو إهمال ضرورتها .
لذلك فإن اي قاعدة قانونية إنما هي نتيجة منطقية لتداخل مجموعة من المقومات قد تزيد و قد تنقص بحسب نوع القانون و طبيعته و بحسب الجهات المتدخلة سواء في صياغته و نشأته كذا  في تفعيله .
و بناء عليه فإن أي تصور ممكن لمسودة قانون المسطرة الجنائية يجب أن يستحضر هذه المقومات مجتمعة من أجل وضع بناء قانوني يجسد أقصى درجات “الخلود ” خاصة و أن مثل هذا القانون يعبر عن المدى الذي وصل إليه المجتمع بمختلف أطيافه في مجال الحقوق و الحريات .
 و لما كان أي قانون للمسطرة الجنائية يحدد الجهات المتدخلة في إنفاذ القانون و حدود تدخلها و نطاق اختصاصها و شروط أداء مهامها ، كما يحدد الحقوق و الضمانات التي يمتلكها الأفراد خلال جريان المساطر و الإجراءات منذ بدء البحث في الجريمة إلى حين انتهاء تنفيذ الأحكام الصادرة في الدعاوى العمومية؛ فإن مقومات التصور التي يجب الاستناد عليها في وضع و ضبط قانون جيد للمسطرة الجنائية يجب أن تتجسد في مستويين أساسيين :
 المستوى الأول : و يتجسد في البعد الحقوقي للقاعدة الشكلية الجنائية
المستوى الثاني : و يتعلق بالبعد المؤسساتي للنفس القاعدة .
 فعلى المستوى الأول : يمكن الحديث عن الأسس و القواعد التي يمكن أن تشكل خلفية حقوقية للقاعدة القانونية الشكلية . إن اختيار الأرضية الحقوقية يعتبر حجز الزاوية التي نُقَيِّم بها القاعدة القانونية ذاتها ، و هذا وجب التأكيد منذ البداية على الموجهات العامة التي أطرت الجانب الحقوقي المتحكم في بناء و صياغة قواعد قانون المسطرة الجنائية ، هل تم الاستناد على مقتضيات الاتفاقيات الدولية انسجاما مع الاختيار الاستراتيجي الذي سار فيه المغرب أو تمت الاستعانة بمقتضيات الاتفاقيات الثنائية فقط من أجل تجاوز الثغرات و العراقيل التي شابت العمل من قبل ، أم أن الفيصل كان هو الدستور كأعلى سقف يمكن الاستناد إليه من غير أي التفاتة إلى المقتضيات المتقدمة التي جاءت بها الاتفاقيات الدولية و غيرها ، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد محاولة لسد الثغرات التي شابت قواعد قانون المسطرة الجنائية و ما شهدته من تعديلات و تتميمات أثناء التطبيق .
إن تحديد الخلفية أو المرجعية الحقوقية و مصدريتها في صناعة القاعدة التشريعية له أهمية خاصة سواء في تقييم مدى انسجام المشروع التشريعي مع الآفاق التي تفتحها تلك القاعدة من أجل الاستفادة المثلى من الحقوق و الضمانات التي توافق عليها الفكر الإنساني عموما أو ما تواضع عليه المجتمع في أحد مراحله التاريخية ؛ أو في تقدير مدى النضج الذي وصل إليه المجتمع في تمثل قيمة الحقوق و الحريات و الضمانات و مدى استجابة الرأي الرسمي لذلك النضج و ترجمته في قوالب تشريعية منظمة لسلوك الأفراد في المجتمع ، أو حتى من أجل محاكمة القاعدة التشريعية ذاتها من حيث مدى مطابقة مضمونها للفكرة الحقوقية و قدرتها على حماية تلك الفكرة .
 و لا يخفى على أي مهتم ما للخلفية الفكرية من أهمية في تحديد أثر القاعدة التشريعية و القانونية عند التنزيل ؛ إذ غالبا ما يكتنف صياغات بعض القواعد القانونية غموض تضطر معه الجهات المكلفة بإنفاذ القانون إلى البحث عن الإرادة الباعثة لتقرير تلك القاعدة ، الشيء الذي يمهد الطريق إلى البحث في أصول تلك القاعدة و جذورها من أجل استجلاء حقيقة إرادة المشرع من وضع ذلك المقتضى التشريعي ، و بالتالي فإن إظهار الأسس و المرجعيات الحقوقية التي تم الاعتماد عليها في سن القانون سيشكل رافدا مهما من روافد التنزيل السليم للقاعدة القانونية على أرض الواقع من غير إهمال أو تجاوز ، و سيضع حدا للتضارب المحتمل في الفهم الواقعي لمقتضيات القانون و بالتالي سيؤدي إلى ترسيخ ما يصطلح عليه بالأمن القضائي ، كما سيكرس مفهوم الأمن القانوني على اعتبار أن توضيح الخلفية الفلسفية و الفكرية الحقوقية للقاعدة القانونية هو الذي سيضمن لتلك القاعدة نوعا من ” الخلود ” .
 و بالمقابل ؛ فإن أي غياب لمثل ما ذكر سيؤدي إلى ترك الباب مشرعا لتأويلات متعددة للتوجهات و التفسيرات التي قد تطغى في العمل اليومي للمؤسسات المكلفة بإنفاذ القانون ، كما سيكون مصدرا للتضارب في العمل القضائي و ما يواكبه من تغير دائم في التوجهات القضائية ليس لمحاكم الموضوع فحسب و لكن حتى بالنسبة للتوجهات الكبرى لأعلى هيئة قضائية . و لعل من شأن تحقق هذا السيناريو العصف بمفهوم الأمن القضائي و التأثير سلبا على الحقوق و الضمانات التي جاء قانون المسطرة الجنائية أصلا لحمايتها .
 إن أهمية توضيح المرجعية الحقوقية للقاعدة التشريعية و ما تختزله تلك المرجعية من تبني لفلسفة معينة في صناعة التشريع يبدو جلية ، كما أنها ستفيد في توضيح نوع التدخل التشريعي المراد هل هو مجرد ” ترقيع ” لنصوص قانونية أم الأن الأمر يتعدى ذلك إلى بناء صرح قانوني كامل و متكامل و موحد يحقق الانسجام في الرؤية و القوة في التنظيم . و غير خفي أن البعد الحقوقي لبناء القاعدة القانونية المسطرية في الميدان الجنائي غير كاف لوحده ، و إنما يجب النظر أيضا إلى الدور الذي ستلعبه المؤسسات المكلفة بإنفاذ القانون حتى يكون للتقدم في مجال التشريع معنى .
 و هكذا ؛ فإنه على مستوى المؤسسات المكلفة بإنفاذ القانون يجب وضع تصور واضح حول صلاحيات كل جهة و ما إذا كانت تلك الصلاحيات ستصب في ترسيخ و تكريس دولة الحق و القانون ، أم أن همل تلك المؤسسات يجب أن يكون عاما بالشكل الذي يسمح بضبط النظام العام و لو في حالة وجود قواعد قانونية تمس أسس الحقوق والحريات . لذلك فإن تحديد صلاحيات و نطاق تدخل كل مؤسسة على حدة من شأنه تجسيد المبدأ الدستوري القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة ، وهو مبدأ مهم من المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم بالمغرب .
 إن تحديد صلاحيات و اختصاصات المؤسسات المكلفة بإنفاذ القانون تحديدا صريحا و واضحا من شأنه أن يعطي يضح حدا للتداخل الممكن للصلاحيات و بالتالي تهرب كل جهة من تحمل مسؤولياتها . و يترتب عن وضوح الرؤية في هذا السياق أن تكون هناك صياغة دقيقة للنص التشريعي بالشكل الذي يرفع الجهالة عن الاختصاص و يحيد عن فكرة تداخل الاختصاصات في كثر من الأحيان ، كما يساهم في صياغة قواعد قانونية آمرة و مشمولة بجزاء صريح عند مخالفتها .
 و من أجل تحقيق بناء مؤسساتي قوي مواطن و مساهم في تنزيل قواعد قانون المسطرة الجنائية بشكل جيد ، يجب أن تتضمن قواعد القانون مجموعة من الخصائص يمكن رصد بعضها وفق الشكل التالي :
 الصياغة اللغوية للمقتضى التشريعي : بحيث يجب أن تصاغ المقتضيات التشريعية بصيغ المبني للمعلوم بدل الاعتماد و الارتكان على صيغ المبني للمجهول وفق ما تسري عليه أحدث المدارس التشريعية العالمية . ذلك أن وضع صياغة مبنية للمعلوم تشكل الأساس الضامن لاحترام المؤسسات لاختصاصاتها ، و الضمان لعدم تجاوز تلك الاختصاصات , كما ستساعد تلك الصياغة في تحديد الجهات المسؤولة عن كل تجاوز أو خرق للقاعدة المسطرية ، و هو لب ما يحققه الإيمان العميق بالفكرة الحقوقية المستندة لدولة المؤسسات .
 الإيجاز في الصياغة : و مؤدى هذه الخاصية الابتعاد عن الإطناب الذي يُخِل بالمعنى ، و الإطالة التي تجعل مجموعة من الأحكام القانونية تتداخل فيما بينها. كما أن من شأن اعتماد أسلوب الإيجاز في الصياغة لا يعني التكثير من المواد و الفصول و لكن يقصد منه السلامة في صياغة الأحكام القانونية التي قد تتضمنها مادة واحدة .
 الابتعاد عن صيغ الجواز و الإمكان : و هذه الخاصية من شأنها التأكيد على كون اختصاصات المؤسسات و القواعد المنظمة لعملها لا يمكن أن تؤتي أُكلها في بناء صرح مؤسساتي مندمج في ثقافة حقوق الإنسان إلا إذا كانت تلك الاختصاصات واضح و واجبة النفاذ ، على اعتبار أن تلك المؤسسات ليست حرة في اتخاذ ما تراه مناسبا من إجراءات أو تتغاضى عن اتخاذ إجراء ما تحت ذريعة عدم إلزاميتها بقاعدة سلوكية معينة . إذ أن كل مؤسسة من مؤسسات إنفاذ القانون الجنائي على وجه الدقة يجب أن تتقيد بالخطوات و الإجراءات التي حددها المشرع بدقة و ألا تزيد عنها بداعي عدم وجود ما يمنعها في ذلك ، لأن القول بهذه الحجة من شأنه فتح الباب أمام كل التجاوزات في ظل غياب نظام جزاء يسهل الرقابة القضائية على عمل تلك المؤسسات .
 الانضباط المفاهيمي للمقتضيات التشريعية : و لعل لهذه الخاصية أهمية قصوى تتجلى في تحديد المقصود بالمفاهيم المستعملة في بناء النص القانوني حتى يتسنى لكل جهة معرفة من المخاطب بتلك القاعدة و ما هي الإجراءات الواجب القيام بها من أجل تحقيق الغرض المنشود . و لعل السلوك التشريعي الحديث يشكل دليلا قاطعا على أهمية هذه الخاصية ؛ إذ نجد العديد من الاتفاقيات الدولية و كذا التشريعات الوطنية تولي أهمية قصوى لدلالات المفاهيم المستعملة في بناء النص القانوني ، و هو ما تقوم بتضمينه في ديباجة الاتفاقية أو القانون حتى يتم تفادي كل التضاربات الممكنة لمعاني الكلمات المستعملة في بناء الجمل القانونية .
 التناسق أو التناغم التشريعي : و يعني ذلك أن القواعد القانونية التي سيتضمنها القانون يجب أن تراعي الأحكام الواردة في قواعد قانونية إما وادة في نفس القانون أو قوانين أخرى لا تزال سارية المفعول حتى يتم تفادي ثغرة ” عدم التناغم ” التي تسبب في الكثير من الأحيان في الإفلات من العقاب إما بسبب ازدواجية الإطار القانوني أو بسبب تداخل الاختصاصات و وجود النفي و الإثبات في آن واحد مما يعطي للأفراد فرصة التملص من حكم القانون .
 التسلسل التشريعي : و مؤدى هذه الخاصية أنه يجب التفكير في صيغة تشريعية لبسط الأحكام القانونية الصرفة ، و عدم اللجوء إلى تكرار المقتضيات الدستورية في صلب القاعدة التشريعية العادية ، ذلك أن اتباع هذا النهج من شأنه أن يخلط الأمور بين ما يدخل في اختصاص الجهات التأسيسية التي تملك صلاحية وضع المقتضيات الدستورية العامة التي تحكم النظام القانوني الداخلي للدولة ، و بين ما هو من اختصاص الجهات التشريعية العادية . وبالتالي فإن إيراد قاعدة دستورية مثلا في نص قانوني عادي صادر عن السلطة التشريعية فيه هدر لحرمة التسلسل التشريعي من جهة و من جهة أخرى يمثل ذلك كله نوع من ازدراء القاعدة الدستورية و الحط من قيمتها ؛ إذ بدل أن تكون تلك القاعدة الدستورية هي المعيار الذي يمكن الاحتكام إليه من أجل الحكم على مدى توافق قاعدة قانونية عادية مع القاعدة الدستورية ، فإن هذه الأخيرة ستصبح بحكم إيرادها في صلب قانون عادي جزءا من هذا الأخير و بالتالي يصعب الاحتكام إليها أو وجود قاعدة أعلى منها يضبطها .
 إن القواعد القانونية التي تتوفر على هذه الخاصيات و غيرها مما لا يتسع المجال لذكره في هذا المقام لهي الكفيلة بوضع قانوني متقدم يراعي بالفعل الفكرة الحقوقية و المؤسساتية ، لكن للأسف لا نجد الكثير من هذه الخصائص مجسدة في مسودة قانون المسطرة  الجنائية الموضوع للنقاش .
في الحاجة إلى قانون أم إلى قانون معدل و متمم ؟
 إن ما يسترعي الانتباه أن مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية التي أعلنت عليها وزارة العدل و الحريات جاءت في سياق موسوم بثورة تشريعية تؤطرها التعديلات الدستورية التي عرفها المغرب من جهة و من جهة أخرى الخطة التشريعية الحكومية التي تم الإعلان عنها في وقت سابق . كما أن هذه المسودة تأتي في وقت انتهت فيه اللجنة العليا المكلفة بالحوار الوطني حول منظومة العدالة مشاوراتها و انتهت إلى خلاصاتها و توصياتها التي نشرت على أوسع نطاق. و في ذات الوقت فإن المطلع على المسودة المذكورة سيجدها معنونة على الشكل التالي : ” مسودة مشروع يقضي بتغيير و تتميم قانون المسطرة الجنائية ” الشيء الذي يطرح التساؤل حول ما إذا كان الأمر يتعلق فعلا بمجرد تعديل و تتميم لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية من شأنه تجاوز الهفوات و جوانب النقص الذي شاب التنزيل العملي لقانون المسطرة الجنائية أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في القانون نفسه ؟
و لعل ما يبعث على التساؤل المطروح هو السياق التاريخي الذي تأتي فيه هذه المسودة . فإذا كانت فكرة التعديل و التتميم تأتي دائما من خلال تدخل تشريعي يهدف إلى تلافي الثغرات التي شابت المنظومة القانونية خلال فترة زمنية معينة نتيجة ظهور قصور في أحكامها و قواعد و في ظل مناخ و سياق حقوقي معين ومتفق عليه و لم يشمله أي تغيير ؛ فإن القول بفكرة التعديل و التتميم لا يصمد عندما يتغير المناخ العام الذي يفرض على المؤسسة التشريعية التدخل ، و هو الحال بالنسبة للتجربة المغربية الحالية .
إن الحديث عن إخراج المسودة موضوع النقاش لا ينفك عن السياقات العامة التي أفرزها إقرار دستور 2011 و ما جاء به من مبادئ دستورية جديدة ثورة حقوقية و مؤسساتية من شأنهما ترسيخ دولة الحق و القانون و دولة المؤسسات . الشيء الذي يفرض بلورة رؤية جديدة تقطع مع الكثير من الممارسات المسطرية السابقة إن نحن أردنا بالفعل تجاوز أخطاء الماضي .  و لذلك فإن وضع تصور جديد لقانون المسطرة الجنائية مبني على الأسس الدستورية المتقدمة من شأنه أن يحقق هدفين اثنين .
الهدف الأول هو تقوية دور المؤسسات في إطار القانون و وفق استراتيجية منفتحة تجسد الممارسة الحقوقية المترجِمة للالتزام بثقافة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه في الخطاب الرسمي ، و الذي ما فتئ المجلس الوطني لحقوق الإنسان ينادي به من خلال مجموعة من مذكراته ، إلى جانب مجموعة من المؤسسات الرسمية و الفعاليات المدنية و المجتمعية . و لعل تكريس هذا التوجه من شأنه إعطاء إشارة قوية لمجموع المواطنين بشأن تقوية هيبة الدولة في إطار القانون و وفق قواعد الشرعية و نطاق المؤسسات .
أما الهدف الثاني فهو خارجي ، إذ أن الاستناد على فلسفة جديدة تؤطر الاشتغال على مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية لهو السبيل الوحيد لإقناع المنتظم الدولي بالخطوات الحثيثة التي يسير فيها المغرب لإثبات انخراطه القوي في الثقافة العالمية لحقوق الإنسان ، و التي من خلالها يثبت أيضا أنه فاعل قوي و مندمج في إطار توحيد القواعد القانونية المسطرية التي أصبحت تتسم أكثر فأكثر بالوحدة و الكونية مادامت أنها مجرد قوالب للتقاضي و إنفاذ القانون قد تتجاوز آثارها حدود الدولة الواحدة إلى الوحدات الدولية  المتعددة ، إن لم تمس في بعض الأحيان سيادة الدول ذاتها نتيجة تطور الجريمة و تشعب مظاهرها و تعقيد مساراتها و تنوع الجهات المتدخلة في إحداثها .
من أجل ذلك كله كان لابد من إعادة التأسيس لفلسفة جديدة تؤطر لقانون مسطرة جنائية يستجيب لكل المتغيرات التي طرأت على الساحة المغربية بدءا من التعديلات التي جاء بها دستور 2011 و ما تمثله من توافق مجتمعي على ضرورة الدفع بقوة نحو تبني الخيار الحقوقي و المؤسساتي ، مرورا بالإرادة الرسمية التي عبرت غير ما مرة عن الرغبة في تطوير المنظومة التشريعية و القانونية الوطنية بما يسهل الاندماج مع الخارج مع الحفاظ على الهوية الوطنية الراسخة .
إن النظرة الإحصائية للمواد التي شملتها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية لتؤكد أن تلك المسودة تضمنت حوالي 288 مادة منها 182 مادة تقريبا تم إدخال تعديلات عليها ، بينما الباقي الممثل في حوالي 106 مواد تعتبر جديدة بالمرة أو تم تغييرها جذريا .
إن عدد المواد التي أدخلت عليها تعديلات أو تمت إضافتها بالمرة تشكل نسبة مهمة من القانون المراد إخراجه في حالة المصادقة على المشروع في صيغته النهائية ، لذلك فإنه من الناحية التقنية يجب التفكير في إعادة صياغة القانون بصورة جدرية بحيث يتم تجاوز فكرة الإضافات بالأرقام الفرعية ( X-1 ، Y-2 … ) فهذه التقنية و إن أخذ بها المشرع الفرنسي فليست قدرا محتوما علينا لمجموعة من الاعتبارات منها أن كثرة التفريعات من شأنها التشويش على السند القانوني عند التفعيل لكثرة التشابه في أرقام الفصول ، كما أنه بالنسبة للمشتغلين في القانون يسهل التعامل مع الفصول و المواد ذات الأرقام البسيطة بدل تلك التي تحمل أرقاما مركبة .
 و عليه يمكن اتباع النهج الذي سار عليه واضعو مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية ، إذ تمت إعادة الفصول بأرقام بسيطة و هو ما سيسهل الولوج إلى المقتضيات و الأحكام التشريعية الواردة في القانون المذكور .
 و لعل فكرة البساطة في الترقيم هي ما يتماشى مع الأطروحات الحديثة في صياغة التشريعات ، و هي الأطروحات التي أخذت تعمل بها مجموعة من النظم التشريعية . كما أن إعادة النظر في الترقيم من شأنه أن يضفي نوعا من السهولة في ولوج الأحكام التشريعية من جهة كما أنه هو ما سيسهل الحديث عن تبني رؤية حقوقية جديدة متماشية مع روح التعديلات الدستورية و التزامات المغرب بثقافة حقوق الإنسان .
 و مما يزيد من أهمية التأكيد على ضرورة إعادة صياغة القانون بصورة جذرية هو إدخال مجموعة من المواضيع الجديدة في صلب المسودة الشيء الذي يعد مؤشرا واضحا على تغير فلسفة واضعي مسودة المشروع ، و كل ذلك يصب في سياق القول بضرورة إعادة تأسيس القانون الجديد على أسس جديدة بدل التأرجح بين التعديل البسيط في بعض المَواطِن و التغيير الجذري في مواطن أخرى .
 يتبع إن شاء الله تعالى

دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية : ( الجزء  :  الثاني – الثالث )
دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ـ ( الجزء الأول ) Reviewed by Unknown on 3:08:00 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.