دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ـ ( الجزء الثالث )
مشروع قانون المسطرة الجنائية : دراسة علمية (الجزء الثالث)
إقامة الدعوى العمومية و ممارستها بين قانون المسطرة الجنائية و مسودة مشروعها
إقامة الدعوى العمومية و ممارستها بين قانون المسطرة الجنائية و مسودة مشروعها

كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
تذهب الدراسات القانونية المهتمة بالضحية إلى أن هذه الأخيرة لعبت أدوارا مهمة على مر تاريخ العدالة الجنائية ، فقد أكدت تلك الدراسات على أن المجتمعات القديمة كانت تعطي للضحية الحق المطلق في تحقيق العدالة ضد كل من اعتدى على الحقوق سواء الجسدية أو المادية أو المالية للضحايا ، و هو الأمر الذي جعلا الضحية تأخذ مركزا محوريا في الخصومة الجنائية القديمة . و قد تأسس دور الضحية ذاك على فكرة الانتقام الذي كان يمثل النظام العادل في الاقتصاص من كل من سولت له نفسه الاعتداء على حقوق الغير .
غير أن تطور المجتمع و مع بداية ظهور الدولة بشكلها الحديث أخذ دور الضحية يتوارى شيئا فشيئا ، و تحل محله العدالة الاجتماعية التي أصبحت الدولة مسؤولة عنها . و بهذا ظهرت للوجود فكرة الدعوى الجنائية باعتبارها الآلية الوحيدة لاقتضاء الحق من كل من خالف الأوامر التي استطاعت الدولة – ممثلة للمجتمع – أن تضمنها بالمدونات الجنائية . و يذهب البعض في هذا السياق إلى القول بأن الضحية لم يعد يلعب أي دور خلال هذه المرحلة نظرا لكون النظرة إلى الجريمة أخذت بعدا آخر يتمثل في كون هذه الأخيرة تشكل اعتداء على حق المجتمع و ليس على حق الفرد ، وأن الفرد ما هو إلا المحل المادي الذي يتجسد فيه ذلك الاعتداء .
إلا أن هذه النظرة المتطرفة لمركز الضحية في المنازعات الجنائية ، أخذت تتراجع شيئا فشيئا ، تراجعا أعطى من جديد للضحية نوعا من الاعتبار. إذ تم تبني الخيار الوسط باحتفاظ الدولة بحقها في القصاص من كل شخص خرق قواعد القانون الجنائي باعتبارها القواعد المجسدة لحماية المصالح العليا للمجتمع ، و في نفس الوقت أُعطِي الضحية حق المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر جراء اقتراف الجريمة و وقوعه محلا لها .
و قد واكبت التشريعات الجنائية هذا التأرجح في المركز القانوني للضحية ، إذ عملت الأنظمة القانونية منذ القدم على شرعنة الحقوق التي يتمتع بها الضحية ، و لعل قانون حمورابي و اللواح الاثني عشرية ، تعتبر شاهدا على التقنين الذي شهده دور الضحية ، كما أن القوانين التي اعتمدتها الحضارات المتعاقبة تؤكد النظرة التشريعية التي اعتمدتها كل حضارة على حدة . و هو الأمر الذي يدل على أن المركز القانوني للضحية لم يكن بنفس المستوى خلال كافة مراحل التاريخ البشري .و قد كان هذا التأرجح في الاعتراف أو عدم الاعتراف بدور الضحية في الخصومة القضائية عموما ، رهين بالنظرة الحضارية ذاتها لمفهوم الضحية الذي تطور بشكل ملحوظ ، إلى أن استقر على ما هو عليه الآن . ذلك التطور الذي انطلق من ربط مفهوم الضحية بالمنظومة المفاهيمية العقدية للشعوب و المجتمعات حين كانت القرابين تقدم للآلهة ، و مر باعتبار الضحية شخص له مصالح و حقوق يحافظ عليها بالإضافة إلى إمكانية تقديم نفسه للآلهة ، إلى الحالة التي تم فيها التخلي عن المعتقدات البائدة و الاعتراف بالكرامة التامة للإنسان من قبل الديانات الأساسية و على رأسها الإسلام .و هكذا فقد أخذ مفهوم الضحية دلالات متعددة جعلت تلك الدلالات تنعكس بصورة واضحة وجلية على تمثل المشرعين لمجموع الحقوق و الواجبات التي يجب أن يتمتع و يلتزم بها الضحايا ، و قد تجسد هذا التمثل في مجموعة من التشريعات الوطنية و الدولية التي اعترفت بمجموعة من الحقوق للضحايا و ضمنتها في تنصيصاتها ، وهو ما دفع بالعديد من الدول إلى إدخال تعديلات على المنظومات التشريعية الجنائية بما يضمن مركزا متميزا للضحية في الخصومة القضائية عموما و الجنائية على وجه الدقة .و قد كان هذا التطور التشريعي نتيجة مباشرة لتطور التفكير الفلسفي و القانوني في مفهوم الضحية مع ظهور بدايات ما يصطلح عليه ب ” علم الضحية ” خلال النصف الأول من القرن الماضي ، و هو الظهور الذي ارتبط بمجموعة من المفكرين المشتغلين أصلا بالحقل القانوني . حيث ارتبط عندهم الضحية أولا بالمجرم حيث اعتبروه ” ضحية ” للمجتمع و للظروف التي أدت به إلى اقتراف الجريمة ، لينتقل الفهم إلى كون الضحية هو الشخص الذي تقع عليه الجريمة مع انقسام الرأي بين ما إذا كان الضحية طرفا سلبيا في الجريمة أم طرفا مساهما فيها ، ليستقر الرأي عند البعض الآخر بكون العلاقة بين الضحية و المجرم يجب أن يُرَكَّز فيها على العلاقة التفاعلية بينهما . ثم تطور هذا المفهوم بعد ظهور مجموعة من الفعاليات الاجتماعية التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن مجموعة من الحقوق و التصدي لمجموعة من الاعتداءات التي تتعرض لها بعض الفئات الاجتماعية كما هو الأمر مثلا بالنسبة للمنظمات النسوية و كذا الهيئات المهتمة بالطبقة العمالية و غيرها من الفعاليات التي أخذت تلعب دورا اجتماعيا و سياسيا في المجتمع .و لعل هذ التطور الذي شهدته دلالة الضحية ، جعل هذا المفهوم يتطور من مجرد لفظ ذو دلالة اجتماعية صرفة و قد تكون عقدية في أحسن الظروف إلى مصطلح له حَمولاتُه السياسية و الفكرية و الإيديولوجية ، الشيء الذي أثر على ضبط المفهوم أساسا . لكن المتعارف عليه هو أن الضحية لم تبق مجرد فكرة ترتبط بخرق القواعد الجنائية و إنما امتدت لتشمل أنواعا مختلفة من الأفراد . و قد كان لهذا التطور أثره الواضح على موقف التشريعات الوطنية من المركز القانوني للضحية في الخصومة القضائية عموما و الجنائية على وجه التحديد . لذلك فقد عملت جل التشريعات على تضمين قواعد قانونية تنظم الحقوق التي يتمتع بها الضحايا في صلب قوانين الإجراءات الجنائية ، و هو دليل واضح على نضج التجربة الإنسانية و رسوها على فكرة اعتبار المركز القانوني للضحية مع التأكيد على ضرورة حماية الحقوق الأساسية للمجتمع .بل إن هناك مجموعة من القواعد الجنائية ملَّكَت الضحية نفسها و بصورة حصرية أدوار في التأثير على الخصومة الجنائية عموما ؛ و هي قواعد مضمنة أساسا في القوانين الجنائية الموضوعية لتبقى مرتبطة بمجالات تطبيقها . و بالموازاة مع هذا التوجه ، فقد ظهرت مرونة أكثر في التعامل مع حقوق الضحايا من قبل المشرعين ؛ لذلك أدخلت مجموعة من التعديلات على القواعد الإجرائية و الشكلية التي حاولت التأطير العام لحدود تدخل الضحية عند الاقتصاص من الجاني ، و ذلك بمناسبة سن القواعد القانونية الإجرائية أو القواعد المسطرة الجنائية .وفي هذا السياق ، وجب التأكيد على أن المشرع المغربي بدوره لم يحد عن هذا القاعدة ؛ إذ تدخل في مناسبات عديدة من أجل إعطاء الضحايا نوعا من التقدم مراكزهم القانونية بما يضمن حقوقهم و جبر الضرر الذي يتعرضون له من جراء الاعتداء على حقوقهم . و هكذا فقد توالت التدخلات التشريعية في هذا الصدد إلى أن وصل الأمر إلى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ؛ و هي المسودة التي حاولت التأكيد على فكرة الضحية و مركزها في الخصومة الجنائية عموما . لذلك فقد كان ضروريا أن تستوقفنا مظاهر محاولة هذا التدخل التشريعي الحديث لنُسائِل الفكرة التي حكمت ” الزيادة ” في استعمال مصطلح الضحية في المسودة المذكورة.الإشكال : من خلال اطلاعنا على مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وجدنا أن واضع المسودة ضاعف من استعمال ” كلمة ” الضحية في مجموعة من المواد التي تضمنتها المسودة ؛ نذكر منها على سبيل المثال المواد 43 – 49 – ( 82-5-1 ) – 123 – ( 193-1 ) – 304 – 305 – 308 – و غيرها من المواد التي أضيفت فيها ” كلمة ” الضحية . و لهذا كان واجبا علينا أن نتساءل هل فعلا كانت هناك إضافة نوعية لمركز الضحية في المسودة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ذكر ل ” كلمة ” من غير أن يغير في نظرة المشرع لهذا الموضوع ؟
إن هذا التساؤل يجعلنا نقف عند أمرين مهمين ؛ أولهما هو القصور الذي كان يعتري قانون المسطرة الجنائية الحالي , كيف كان يحد من اقتضاء حقوق الضحايا عموما أثناء المطالبات القضائية ، وهو الأمر الذي يضعنا أمام إشكال فرعي يتعلق بمدى قدرة القضاء المغربي على ضمان حقوق الضحية من خلال القراءة الجريئة للمقتضيات القانونية المسطرية و هل من سبيل إلى ذلك ؟و ثانيهما يرتبط بالغاية التي استعملت من أجلها ” كلمة ” الضحية في المسودة موضوع النقاش ؛ هل كان الأمر يتعلق بتغير في مفهوم الضحية أم أن الأمر بخلاف ذلك ؟الفرضية : إن القراءة المتأنية للمقتضيات التي جاءت بها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ، يجعلنا نقف على أن الذكر المتعدد للفظ الضحية في مواطن جديدة لا يعدو أن يكون تكرارا لنفس المضمون الذي سار عليه المشرع في القانون الجاري به العمل ، و هو ما دفعنا إلى التعبير بلفظ ” كلمة ” بدل ” مفهوم ” الضحية. على اعتبار أن الدلالة الرسمية ( من الرسم ) للضحية كما استُعملت ، لا تمت إلى الدلالة الاصطلاحية لنفس المصطلح وما إذا حدث أي تغير في النظرة لهذا المفهوم أم لا.
و للوقوف على صحة هذه الفرضية من خطئها ، نقترح أن نبحث الموضوع من خلال مبحثين :
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
تذهب الدراسات القانونية المهتمة بالضحية إلى أن هذه الأخيرة لعبت أدوارا مهمة على مر تاريخ العدالة الجنائية ، فقد أكدت تلك الدراسات على أن المجتمعات القديمة كانت تعطي للضحية الحق المطلق في تحقيق العدالة ضد كل من اعتدى على الحقوق سواء الجسدية أو المادية أو المالية للضحايا ، و هو الأمر الذي جعلا الضحية تأخذ مركزا محوريا في الخصومة الجنائية القديمة . و قد تأسس دور الضحية ذاك على فكرة الانتقام الذي كان يمثل النظام العادل في الاقتصاص من كل من سولت له نفسه الاعتداء على حقوق الغير .
غير أن تطور المجتمع و مع بداية ظهور الدولة بشكلها الحديث أخذ دور الضحية يتوارى شيئا فشيئا ، و تحل محله العدالة الاجتماعية التي أصبحت الدولة مسؤولة عنها . و بهذا ظهرت للوجود فكرة الدعوى الجنائية باعتبارها الآلية الوحيدة لاقتضاء الحق من كل من خالف الأوامر التي استطاعت الدولة – ممثلة للمجتمع – أن تضمنها بالمدونات الجنائية . و يذهب البعض في هذا السياق إلى القول بأن الضحية لم يعد يلعب أي دور خلال هذه المرحلة نظرا لكون النظرة إلى الجريمة أخذت بعدا آخر يتمثل في كون هذه الأخيرة تشكل اعتداء على حق المجتمع و ليس على حق الفرد ، وأن الفرد ما هو إلا المحل المادي الذي يتجسد فيه ذلك الاعتداء .
إلا أن هذه النظرة المتطرفة لمركز الضحية في المنازعات الجنائية ، أخذت تتراجع شيئا فشيئا ، تراجعا أعطى من جديد للضحية نوعا من الاعتبار. إذ تم تبني الخيار الوسط باحتفاظ الدولة بحقها في القصاص من كل شخص خرق قواعد القانون الجنائي باعتبارها القواعد المجسدة لحماية المصالح العليا للمجتمع ، و في نفس الوقت أُعطِي الضحية حق المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر جراء اقتراف الجريمة و وقوعه محلا لها .
و قد واكبت التشريعات الجنائية هذا التأرجح في المركز القانوني للضحية ، إذ عملت الأنظمة القانونية منذ القدم على شرعنة الحقوق التي يتمتع بها الضحية ، و لعل قانون حمورابي و اللواح الاثني عشرية ، تعتبر شاهدا على التقنين الذي شهده دور الضحية ، كما أن القوانين التي اعتمدتها الحضارات المتعاقبة تؤكد النظرة التشريعية التي اعتمدتها كل حضارة على حدة . و هو الأمر الذي يدل على أن المركز القانوني للضحية لم يكن بنفس المستوى خلال كافة مراحل التاريخ البشري .و قد كان هذا التأرجح في الاعتراف أو عدم الاعتراف بدور الضحية في الخصومة القضائية عموما ، رهين بالنظرة الحضارية ذاتها لمفهوم الضحية الذي تطور بشكل ملحوظ ، إلى أن استقر على ما هو عليه الآن . ذلك التطور الذي انطلق من ربط مفهوم الضحية بالمنظومة المفاهيمية العقدية للشعوب و المجتمعات حين كانت القرابين تقدم للآلهة ، و مر باعتبار الضحية شخص له مصالح و حقوق يحافظ عليها بالإضافة إلى إمكانية تقديم نفسه للآلهة ، إلى الحالة التي تم فيها التخلي عن المعتقدات البائدة و الاعتراف بالكرامة التامة للإنسان من قبل الديانات الأساسية و على رأسها الإسلام .و هكذا فقد أخذ مفهوم الضحية دلالات متعددة جعلت تلك الدلالات تنعكس بصورة واضحة وجلية على تمثل المشرعين لمجموع الحقوق و الواجبات التي يجب أن يتمتع و يلتزم بها الضحايا ، و قد تجسد هذا التمثل في مجموعة من التشريعات الوطنية و الدولية التي اعترفت بمجموعة من الحقوق للضحايا و ضمنتها في تنصيصاتها ، وهو ما دفع بالعديد من الدول إلى إدخال تعديلات على المنظومات التشريعية الجنائية بما يضمن مركزا متميزا للضحية في الخصومة القضائية عموما و الجنائية على وجه الدقة .و قد كان هذا التطور التشريعي نتيجة مباشرة لتطور التفكير الفلسفي و القانوني في مفهوم الضحية مع ظهور بدايات ما يصطلح عليه ب ” علم الضحية ” خلال النصف الأول من القرن الماضي ، و هو الظهور الذي ارتبط بمجموعة من المفكرين المشتغلين أصلا بالحقل القانوني . حيث ارتبط عندهم الضحية أولا بالمجرم حيث اعتبروه ” ضحية ” للمجتمع و للظروف التي أدت به إلى اقتراف الجريمة ، لينتقل الفهم إلى كون الضحية هو الشخص الذي تقع عليه الجريمة مع انقسام الرأي بين ما إذا كان الضحية طرفا سلبيا في الجريمة أم طرفا مساهما فيها ، ليستقر الرأي عند البعض الآخر بكون العلاقة بين الضحية و المجرم يجب أن يُرَكَّز فيها على العلاقة التفاعلية بينهما . ثم تطور هذا المفهوم بعد ظهور مجموعة من الفعاليات الاجتماعية التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن مجموعة من الحقوق و التصدي لمجموعة من الاعتداءات التي تتعرض لها بعض الفئات الاجتماعية كما هو الأمر مثلا بالنسبة للمنظمات النسوية و كذا الهيئات المهتمة بالطبقة العمالية و غيرها من الفعاليات التي أخذت تلعب دورا اجتماعيا و سياسيا في المجتمع .و لعل هذ التطور الذي شهدته دلالة الضحية ، جعل هذا المفهوم يتطور من مجرد لفظ ذو دلالة اجتماعية صرفة و قد تكون عقدية في أحسن الظروف إلى مصطلح له حَمولاتُه السياسية و الفكرية و الإيديولوجية ، الشيء الذي أثر على ضبط المفهوم أساسا . لكن المتعارف عليه هو أن الضحية لم تبق مجرد فكرة ترتبط بخرق القواعد الجنائية و إنما امتدت لتشمل أنواعا مختلفة من الأفراد . و قد كان لهذا التطور أثره الواضح على موقف التشريعات الوطنية من المركز القانوني للضحية في الخصومة القضائية عموما و الجنائية على وجه التحديد . لذلك فقد عملت جل التشريعات على تضمين قواعد قانونية تنظم الحقوق التي يتمتع بها الضحايا في صلب قوانين الإجراءات الجنائية ، و هو دليل واضح على نضج التجربة الإنسانية و رسوها على فكرة اعتبار المركز القانوني للضحية مع التأكيد على ضرورة حماية الحقوق الأساسية للمجتمع .بل إن هناك مجموعة من القواعد الجنائية ملَّكَت الضحية نفسها و بصورة حصرية أدوار في التأثير على الخصومة الجنائية عموما ؛ و هي قواعد مضمنة أساسا في القوانين الجنائية الموضوعية لتبقى مرتبطة بمجالات تطبيقها . و بالموازاة مع هذا التوجه ، فقد ظهرت مرونة أكثر في التعامل مع حقوق الضحايا من قبل المشرعين ؛ لذلك أدخلت مجموعة من التعديلات على القواعد الإجرائية و الشكلية التي حاولت التأطير العام لحدود تدخل الضحية عند الاقتصاص من الجاني ، و ذلك بمناسبة سن القواعد القانونية الإجرائية أو القواعد المسطرة الجنائية .وفي هذا السياق ، وجب التأكيد على أن المشرع المغربي بدوره لم يحد عن هذا القاعدة ؛ إذ تدخل في مناسبات عديدة من أجل إعطاء الضحايا نوعا من التقدم مراكزهم القانونية بما يضمن حقوقهم و جبر الضرر الذي يتعرضون له من جراء الاعتداء على حقوقهم . و هكذا فقد توالت التدخلات التشريعية في هذا الصدد إلى أن وصل الأمر إلى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ؛ و هي المسودة التي حاولت التأكيد على فكرة الضحية و مركزها في الخصومة الجنائية عموما . لذلك فقد كان ضروريا أن تستوقفنا مظاهر محاولة هذا التدخل التشريعي الحديث لنُسائِل الفكرة التي حكمت ” الزيادة ” في استعمال مصطلح الضحية في المسودة المذكورة.الإشكال : من خلال اطلاعنا على مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وجدنا أن واضع المسودة ضاعف من استعمال ” كلمة ” الضحية في مجموعة من المواد التي تضمنتها المسودة ؛ نذكر منها على سبيل المثال المواد 43 – 49 – ( 82-5-1 ) – 123 – ( 193-1 ) – 304 – 305 – 308 – و غيرها من المواد التي أضيفت فيها ” كلمة ” الضحية . و لهذا كان واجبا علينا أن نتساءل هل فعلا كانت هناك إضافة نوعية لمركز الضحية في المسودة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ذكر ل ” كلمة ” من غير أن يغير في نظرة المشرع لهذا الموضوع ؟
إن هذا التساؤل يجعلنا نقف عند أمرين مهمين ؛ أولهما هو القصور الذي كان يعتري قانون المسطرة الجنائية الحالي , كيف كان يحد من اقتضاء حقوق الضحايا عموما أثناء المطالبات القضائية ، وهو الأمر الذي يضعنا أمام إشكال فرعي يتعلق بمدى قدرة القضاء المغربي على ضمان حقوق الضحية من خلال القراءة الجريئة للمقتضيات القانونية المسطرية و هل من سبيل إلى ذلك ؟و ثانيهما يرتبط بالغاية التي استعملت من أجلها ” كلمة ” الضحية في المسودة موضوع النقاش ؛ هل كان الأمر يتعلق بتغير في مفهوم الضحية أم أن الأمر بخلاف ذلك ؟الفرضية : إن القراءة المتأنية للمقتضيات التي جاءت بها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ، يجعلنا نقف على أن الذكر المتعدد للفظ الضحية في مواطن جديدة لا يعدو أن يكون تكرارا لنفس المضمون الذي سار عليه المشرع في القانون الجاري به العمل ، و هو ما دفعنا إلى التعبير بلفظ ” كلمة ” بدل ” مفهوم ” الضحية. على اعتبار أن الدلالة الرسمية ( من الرسم ) للضحية كما استُعملت ، لا تمت إلى الدلالة الاصطلاحية لنفس المصطلح وما إذا حدث أي تغير في النظرة لهذا المفهوم أم لا.
و للوقوف على صحة هذه الفرضية من خطئها ، نقترح أن نبحث الموضوع من خلال مبحثين :
المبحث الأول : التعدد الصوري لمفهوم الضحية في قانون المسطرة الجنائية المغربي.
المبحث الثاني : النسق التشريعي لمركز الضحية بين قانون المسطرة الجنائية و مسودة القانون .
المبحث الثاني : النسق التشريعي لمركز الضحية بين قانون المسطرة الجنائية و مسودة القانون .
المبحث الأول : التعدد الصوري لمفهوم الضحية في قانون المسطرة الجنائية المغربي.
إن استقراء قانون المسطرة الجنائية من حيث استعماله للفظ الضحية ، ليؤكد بما لا يدع مجالا للشلك بأن المشرع قصد بها التدليل على أمرين اثنين :
أولهما الدلالة على كون الضحية هي الجهة التي تعرضت للاعتداء من جراء اقتراف الفعل الجرمي و لم تنتصب أمام القضاء الزجري للمطالبة بحقوقها المدنية ، و في هذا الحالة فإن استعمال لفظ الضحية يأخذ معنى المشتكي عند مباشرة الإجراءات الأولية للبحث أو معنى الشاهد في الدعوى العمومية . إذ أن استعمال لفظ الضحية في هذا السياق جاء ليس باعتبار مركزه القانوني كفاعل في الخصومة الجنائية ، و إنما كطرف أجنبي عليها ،و يتجلى ذلك من خلال ما يلي :
فهو إما مبلغ عن فعل أو واقع تحت تأثير نتيجته و بالتالي يأخذ صفة مشتكي، و في هذا الاتجاه سار معنى لفظ الضحية في المواد 5 و ( 82-4 ) و ( 82-5 ) و 649 من قانون المسطرة الجنائية ، إذ في هذه المواد و مثلها جاء لفظ الضحية في سياق الحديث عن المشتكي أو المبلغ عن الجريمة و بالتالي فإن دور الضحية في هذا السياق لا يعدو أن فاعلا ثانويا في سير الخصومة الجنائية ، إذ يبقى القرار الأخير للجهات المكلفة بإنفاذ القانون ، و هو ما يدل على الانتصار لفكرة مركزية دور الدولة في محاربة الجريمة .
غير أن المشرع في ذات الوقت عمل على إعطاء الضحية دورا آخر ،, لكن ليس من أجل تمكينه من حقوقه و إنما من أجل الاقتصاص من الجاني، و في هذا السياق فقد تعامل المشرع في مواطن مختلفة من قانون المسطرة الجنائية مع الضحية كشاهد عن الفعل الجرمي المقترف ، و لعل هذا ما تدل عليه مقتضيات المادة ( 82-5 ) التي نصت على أنه : ” يتمتع الضحية الشاهد أو الضحية المبلغ بتدابير الحماية المنصوص عليها في المادتين 82-6 و82-7 أدناه، حسب الأحوال” إذ بموجب هذه المادة فقد أخذ معنى الضحية دلالة الشاهد في الدعوى العمومية ، و بالتالي فإننا لن نتحدث عن أي اركز للضحية في هذه الحالة بالقدر الذي نتحدث عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الشخص الذي تعرض للجريمة في إثبات هذه الأخيرة ، الشيء الذي يثبت معه مرة أخرى بأن الضحية ما هو إلا أداة لتحقيق و إثبات موضوع الدعوى العمومية .
و بالتالي فإن ما قيل في المفهوم المعتمد من طرف المشرع للفظ الضحية في قانون المسطرة الجنائية يبقى محافظا على التوجه التقليدي الذي كان ينظر إلى المعتدى عليه كموضوع للجريمة فقط و ليس كفاعل في تحقيق العدالة الجنائية اللهم إذا كان دوره لا يتجاوز مجرد التبليغ عن الجريمة أو أداء الشهادة بشأنها . و قد جسد المشرع هذا التوجه التقليدي لدور الضحية في مواطن متعددة في قانون المسطرة الجنائية يمكن أن ندلل عليها بمثال غير مباشر و آخر صريح و واضح .
ففي المثال غير المباشر فإن المشرع نص في المادة 94 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي : ” يمكن في جميع الأحوال إما للنيابة العامة أو المتهم أو أي طرف مدني آخر أن ينازع في قبول طلبات الطرف المدني. ” و لا مفهوم في الحقيقة لمنازعة النيابة العامة في المنازعة في المطالب المدنية إلا إذا كانت ترغب في تحويل دور الضحية العازم على تقديم مطالبه المدنية إلى شاهد . إذ في هذه الحالة لا يمكن القول بأن الضحية يمكن أن يشهد في القضية و في نفس الوقت يطالب بحقوقه المدنية ، إذ أن المشرع وضع لذلك قيودا قانونية نص عليها في نفس القانون. كما أنه لا يستقيم القول بكون هذا الحد من ممارسة الحقوق بالنسبة للضحية لا يتحقق إلا خلال مرحلة التحقيق الإعدادي ، ذلك أن المشرع أحال في المادة 348 من قانون المسطرة الجنائية على نفس المقتضيات الواردة بالمواد من 92 إلى 96 فيما يتعلق بالتقدم بالمطالب المدنية أمام الهيئات الزجرية .
لقد أكد المشرع المغربي ذاته هذا الحد من مفهوم لفظ الضحية و حصره في مجرد أداة لإثبات الجريمة دون الدفاع عن حقوقه المدنية أمام القضاء الزجري و ذلك في المادة 354 من نفس قانون المسطرة الجنائية التي نصت على ما يلي : ” … غير أن الشخص الذي استمع إليه بالجلسة بصفته شاهدا بعد أدائه اليمين، لا يمكنه بعد ذلك أن يتقدم بصفته طرفا مدنيا. ” . ومما يتضح من هذا المقتضى أن المشرع حدَّ من الحقوق المخولة للضحية بمجرد أداء دوره كشاهد ، أي أن الضحية في المفهوم التشريعي في مثل هذه الحالات استعمل لإثبات الجريمة و لا مفهوم لمركزه القانوني من أجل الدفاع عن حقوقه و استفادته من قواعد قانون المسطرة الجنائية .
و مما نخلص إليه في هذا السياق أن المشرع المغربي لا يزال محافظا بشأن المركز القانوني للضحية في التشريع الجنائي الداخلي ، بالرغم من كونه حاول ومنذ أن وضع أول قانون للمسطرة الجنائية أن يضمن للضحية مركزا معينا ، غير أن ذلك المركز لا يزال مطبوعا بالكوابح و القيود التي أسلفنا الإشارة إلى بعضها .
و في هذا السياق كان لابد لنا من التأكيد على أن استعمال لفظ الضحية في قانون المسطرة الجنائية المغربي لم يأخذ فقط دلالة المبلغ و الشاهد ، وإنما أخذ أيضا دلالة المطالب بالحق المدني . إذ هنا يمكن الحديث عن اقتران دلالة لفظ الضحية بالمركز القانوني الذي يمكن أن يلعبه في هذا السياق .
فلفظ الضحية استعمله المشرع في مواطن عديدة للدلالة على أمرين هما وجهان لعملة واحدة ، أولهما الطرف المدني و ثانيهما المطالب بالحق المدني . و قد تم التنصيص على مفهوم لفظ الضحية بالعبارتين السابقتين في مجموعة من المواد منها 8 و 91 و 94 و 95 و 106 و 179 و 355 و 367 و 410 و غيرها من المواد التي يمكن حصر عددها في حوالي 59 مادة متعلقة بالمركز القانوني لضحية الجريمة .
و يستشف مما ذكر أن المشرع و إن أكد على استلهامه للفكر القانوني المطالب بضمان حقوق الضحية ، فإنه لم يذهب إلى الحدود القصوى في ذلك التبني؛ الشيء الذي جعل البناء التشريعي لحقوق الضحية مشوبا بنوع من التجزيء في المعالجة و القصور في النظرة لهذا الموضوع . على أن ما يمكن ملاحظته في هذا السياق هو استمرار واضع مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على نفس النحو و المنوال .
و في هذا الاتجاه يمكن رصد توجه واضعي المسودة المذكورة في التركيز على لفظ الضحية و الإكثار من استعمالها ، غير أن ذلك الاستعمال لا يعدو أن يكون مجرد تكرار لما درج عليه المشرع من قبل .
إن التعامل مع الألفاظ و المفاهيم من الناحية التشريعية يعتبر حجر الزاوية في بناء التصور القانوني و تجسيد النسق التشريعي الذي يحكم السلوك و القواعد و الإجراءات الواجبة التنفيذ ؛ لذلك فإن تبني أي لفظ و استعماله يجب أن يكون ترجمة حقيقية للمدى الذي تبناه المشرع في موضوع ما . و في هذا السياق يمكن القول بأن واضع مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية لم يتعامل مع موضوع الضحية تعاملا علميا يجسد تمثله الواعي لما وصل إليه الفكر القانوني في هذا السياق . لذلك فقد عمل واضعو المسودة على اللجوء إلى الشكل بدل المضمون ، إذ كما هو ملاحظ فقد تمت إضافة لفظ الضحية في التعديلات التي جاءت بها المسودة في مواد متعددة منها المواد 43 – 49 – ( 82-5-1 ) – 123 – ( 193-1 ) – 304 – 305 – 308 … غير أن الدلالة لم تتغير عما كان عليه الأمر من قبل ، و هو الشيء الذي أثر على إصلاح مركز الضحية في قانون المسطرة الجنائية و جعل التعديلات المذكورة لا تعدو أن تكون مجرد إطناب أو تضخيم لفظي لمعنى واحد أو معنيين بنفس الألفاظ .
غير أن هذا التوجه القانوني الذي يسير عليه المشرع المغربي لا يحول دون الإشارة إلى أن هناك مقتضى ” وحيد : يمكن أن نستشف منه المعنى الحقيقي لحماية حقوق الضحية و لو بالمفهوم الكلاسيكي لهذا اللفظ ، و نجد ذلك في المادة 43 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه : ” … إذا كان الضحية قاصراً أو معاقاً ذهنياً، تبلغ أي سلطة قضائية أو إدارية مختصة. ” إذ مما يلاحظ من هذا المقتضى أن المشرع لم يتعامل مع الشخص الذي تعرض لاعتداء لا بصفة مبلغ أو مشتكي و لا بصفة شاهد و لا بصفة المطالب بالحق المدني و إنما تعامل معه بالصفة المجردة للضحية و هو الاتجاه الذي نراه منطلقا مناسبا لأي تدخل تشريعي ؛ غير أن هذا لا يشكل إلا استثناء و لو في ظل المسودة موضوع النقاش .
إن هذا الواقع الجديد الذي تجسد في مواد المسودة سيمكننا من القول بأنه ما لم يراجع المشرع نظرته للضحية التي ما فتأ دورها يتعاظم في التشريعات الحديثة سواء من حيت الحفاظ على النظام العام أو حماية المصالح الخاصة ، فإن مجموعة من التناقضات ستبقى كابحة و لن تساهم في تمكين ضحايا الجرائم من حقوقهم ، خاصة في ظل واقع أصبح يتسم يوما بعد يوم بتعقد الجريمة و استهدافها للمصالح الشخصية أكثر من المصالح ذات الصفة العامة . ومن هذا المنطلق يجوز لنا التساؤل عن البناء التشريعي المجسد لتصور المشرع للضحية و دورها وحقوقها في قانون المسطرة الجنائية و كذا في ما جاءت به مسودة هذه الأخيرة . و هو ما سيكون موضوع المبحث الموالي .
إن استقراء قانون المسطرة الجنائية من حيث استعماله للفظ الضحية ، ليؤكد بما لا يدع مجالا للشلك بأن المشرع قصد بها التدليل على أمرين اثنين :
أولهما الدلالة على كون الضحية هي الجهة التي تعرضت للاعتداء من جراء اقتراف الفعل الجرمي و لم تنتصب أمام القضاء الزجري للمطالبة بحقوقها المدنية ، و في هذا الحالة فإن استعمال لفظ الضحية يأخذ معنى المشتكي عند مباشرة الإجراءات الأولية للبحث أو معنى الشاهد في الدعوى العمومية . إذ أن استعمال لفظ الضحية في هذا السياق جاء ليس باعتبار مركزه القانوني كفاعل في الخصومة الجنائية ، و إنما كطرف أجنبي عليها ،و يتجلى ذلك من خلال ما يلي :
فهو إما مبلغ عن فعل أو واقع تحت تأثير نتيجته و بالتالي يأخذ صفة مشتكي، و في هذا الاتجاه سار معنى لفظ الضحية في المواد 5 و ( 82-4 ) و ( 82-5 ) و 649 من قانون المسطرة الجنائية ، إذ في هذه المواد و مثلها جاء لفظ الضحية في سياق الحديث عن المشتكي أو المبلغ عن الجريمة و بالتالي فإن دور الضحية في هذا السياق لا يعدو أن فاعلا ثانويا في سير الخصومة الجنائية ، إذ يبقى القرار الأخير للجهات المكلفة بإنفاذ القانون ، و هو ما يدل على الانتصار لفكرة مركزية دور الدولة في محاربة الجريمة .
غير أن المشرع في ذات الوقت عمل على إعطاء الضحية دورا آخر ،, لكن ليس من أجل تمكينه من حقوقه و إنما من أجل الاقتصاص من الجاني، و في هذا السياق فقد تعامل المشرع في مواطن مختلفة من قانون المسطرة الجنائية مع الضحية كشاهد عن الفعل الجرمي المقترف ، و لعل هذا ما تدل عليه مقتضيات المادة ( 82-5 ) التي نصت على أنه : ” يتمتع الضحية الشاهد أو الضحية المبلغ بتدابير الحماية المنصوص عليها في المادتين 82-6 و82-7 أدناه، حسب الأحوال” إذ بموجب هذه المادة فقد أخذ معنى الضحية دلالة الشاهد في الدعوى العمومية ، و بالتالي فإننا لن نتحدث عن أي اركز للضحية في هذه الحالة بالقدر الذي نتحدث عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الشخص الذي تعرض للجريمة في إثبات هذه الأخيرة ، الشيء الذي يثبت معه مرة أخرى بأن الضحية ما هو إلا أداة لتحقيق و إثبات موضوع الدعوى العمومية .
و بالتالي فإن ما قيل في المفهوم المعتمد من طرف المشرع للفظ الضحية في قانون المسطرة الجنائية يبقى محافظا على التوجه التقليدي الذي كان ينظر إلى المعتدى عليه كموضوع للجريمة فقط و ليس كفاعل في تحقيق العدالة الجنائية اللهم إذا كان دوره لا يتجاوز مجرد التبليغ عن الجريمة أو أداء الشهادة بشأنها . و قد جسد المشرع هذا التوجه التقليدي لدور الضحية في مواطن متعددة في قانون المسطرة الجنائية يمكن أن ندلل عليها بمثال غير مباشر و آخر صريح و واضح .
ففي المثال غير المباشر فإن المشرع نص في المادة 94 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي : ” يمكن في جميع الأحوال إما للنيابة العامة أو المتهم أو أي طرف مدني آخر أن ينازع في قبول طلبات الطرف المدني. ” و لا مفهوم في الحقيقة لمنازعة النيابة العامة في المنازعة في المطالب المدنية إلا إذا كانت ترغب في تحويل دور الضحية العازم على تقديم مطالبه المدنية إلى شاهد . إذ في هذه الحالة لا يمكن القول بأن الضحية يمكن أن يشهد في القضية و في نفس الوقت يطالب بحقوقه المدنية ، إذ أن المشرع وضع لذلك قيودا قانونية نص عليها في نفس القانون. كما أنه لا يستقيم القول بكون هذا الحد من ممارسة الحقوق بالنسبة للضحية لا يتحقق إلا خلال مرحلة التحقيق الإعدادي ، ذلك أن المشرع أحال في المادة 348 من قانون المسطرة الجنائية على نفس المقتضيات الواردة بالمواد من 92 إلى 96 فيما يتعلق بالتقدم بالمطالب المدنية أمام الهيئات الزجرية .
لقد أكد المشرع المغربي ذاته هذا الحد من مفهوم لفظ الضحية و حصره في مجرد أداة لإثبات الجريمة دون الدفاع عن حقوقه المدنية أمام القضاء الزجري و ذلك في المادة 354 من نفس قانون المسطرة الجنائية التي نصت على ما يلي : ” … غير أن الشخص الذي استمع إليه بالجلسة بصفته شاهدا بعد أدائه اليمين، لا يمكنه بعد ذلك أن يتقدم بصفته طرفا مدنيا. ” . ومما يتضح من هذا المقتضى أن المشرع حدَّ من الحقوق المخولة للضحية بمجرد أداء دوره كشاهد ، أي أن الضحية في المفهوم التشريعي في مثل هذه الحالات استعمل لإثبات الجريمة و لا مفهوم لمركزه القانوني من أجل الدفاع عن حقوقه و استفادته من قواعد قانون المسطرة الجنائية .
و مما نخلص إليه في هذا السياق أن المشرع المغربي لا يزال محافظا بشأن المركز القانوني للضحية في التشريع الجنائي الداخلي ، بالرغم من كونه حاول ومنذ أن وضع أول قانون للمسطرة الجنائية أن يضمن للضحية مركزا معينا ، غير أن ذلك المركز لا يزال مطبوعا بالكوابح و القيود التي أسلفنا الإشارة إلى بعضها .
و في هذا السياق كان لابد لنا من التأكيد على أن استعمال لفظ الضحية في قانون المسطرة الجنائية المغربي لم يأخذ فقط دلالة المبلغ و الشاهد ، وإنما أخذ أيضا دلالة المطالب بالحق المدني . إذ هنا يمكن الحديث عن اقتران دلالة لفظ الضحية بالمركز القانوني الذي يمكن أن يلعبه في هذا السياق .
فلفظ الضحية استعمله المشرع في مواطن عديدة للدلالة على أمرين هما وجهان لعملة واحدة ، أولهما الطرف المدني و ثانيهما المطالب بالحق المدني . و قد تم التنصيص على مفهوم لفظ الضحية بالعبارتين السابقتين في مجموعة من المواد منها 8 و 91 و 94 و 95 و 106 و 179 و 355 و 367 و 410 و غيرها من المواد التي يمكن حصر عددها في حوالي 59 مادة متعلقة بالمركز القانوني لضحية الجريمة .
و يستشف مما ذكر أن المشرع و إن أكد على استلهامه للفكر القانوني المطالب بضمان حقوق الضحية ، فإنه لم يذهب إلى الحدود القصوى في ذلك التبني؛ الشيء الذي جعل البناء التشريعي لحقوق الضحية مشوبا بنوع من التجزيء في المعالجة و القصور في النظرة لهذا الموضوع . على أن ما يمكن ملاحظته في هذا السياق هو استمرار واضع مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على نفس النحو و المنوال .
و في هذا الاتجاه يمكن رصد توجه واضعي المسودة المذكورة في التركيز على لفظ الضحية و الإكثار من استعمالها ، غير أن ذلك الاستعمال لا يعدو أن يكون مجرد تكرار لما درج عليه المشرع من قبل .
إن التعامل مع الألفاظ و المفاهيم من الناحية التشريعية يعتبر حجر الزاوية في بناء التصور القانوني و تجسيد النسق التشريعي الذي يحكم السلوك و القواعد و الإجراءات الواجبة التنفيذ ؛ لذلك فإن تبني أي لفظ و استعماله يجب أن يكون ترجمة حقيقية للمدى الذي تبناه المشرع في موضوع ما . و في هذا السياق يمكن القول بأن واضع مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية لم يتعامل مع موضوع الضحية تعاملا علميا يجسد تمثله الواعي لما وصل إليه الفكر القانوني في هذا السياق . لذلك فقد عمل واضعو المسودة على اللجوء إلى الشكل بدل المضمون ، إذ كما هو ملاحظ فقد تمت إضافة لفظ الضحية في التعديلات التي جاءت بها المسودة في مواد متعددة منها المواد 43 – 49 – ( 82-5-1 ) – 123 – ( 193-1 ) – 304 – 305 – 308 … غير أن الدلالة لم تتغير عما كان عليه الأمر من قبل ، و هو الشيء الذي أثر على إصلاح مركز الضحية في قانون المسطرة الجنائية و جعل التعديلات المذكورة لا تعدو أن تكون مجرد إطناب أو تضخيم لفظي لمعنى واحد أو معنيين بنفس الألفاظ .
غير أن هذا التوجه القانوني الذي يسير عليه المشرع المغربي لا يحول دون الإشارة إلى أن هناك مقتضى ” وحيد : يمكن أن نستشف منه المعنى الحقيقي لحماية حقوق الضحية و لو بالمفهوم الكلاسيكي لهذا اللفظ ، و نجد ذلك في المادة 43 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه : ” … إذا كان الضحية قاصراً أو معاقاً ذهنياً، تبلغ أي سلطة قضائية أو إدارية مختصة. ” إذ مما يلاحظ من هذا المقتضى أن المشرع لم يتعامل مع الشخص الذي تعرض لاعتداء لا بصفة مبلغ أو مشتكي و لا بصفة شاهد و لا بصفة المطالب بالحق المدني و إنما تعامل معه بالصفة المجردة للضحية و هو الاتجاه الذي نراه منطلقا مناسبا لأي تدخل تشريعي ؛ غير أن هذا لا يشكل إلا استثناء و لو في ظل المسودة موضوع النقاش .
إن هذا الواقع الجديد الذي تجسد في مواد المسودة سيمكننا من القول بأنه ما لم يراجع المشرع نظرته للضحية التي ما فتأ دورها يتعاظم في التشريعات الحديثة سواء من حيت الحفاظ على النظام العام أو حماية المصالح الخاصة ، فإن مجموعة من التناقضات ستبقى كابحة و لن تساهم في تمكين ضحايا الجرائم من حقوقهم ، خاصة في ظل واقع أصبح يتسم يوما بعد يوم بتعقد الجريمة و استهدافها للمصالح الشخصية أكثر من المصالح ذات الصفة العامة . ومن هذا المنطلق يجوز لنا التساؤل عن البناء التشريعي المجسد لتصور المشرع للضحية و دورها وحقوقها في قانون المسطرة الجنائية و كذا في ما جاءت به مسودة هذه الأخيرة . و هو ما سيكون موضوع المبحث الموالي .
المبحث الثاني : النسق التشريعي لمركز الضحية بين قانون المسطرة الجنائية و مسودة القانون .ينطلق التصور التشريعي المتعلق بمركز الضحية في قانون المسطرة الجنائية من مجموعة من المبادئ التي تؤطر نوع و نطاق و مدى الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الضحايا من جهة ،و كذا الدور الذي يمكن أن يلعبوه في إطار محاربة الجريمة حفاظا على المصلحة العليا للمجتمع و جبر الأضرار التي تنتج عن اقتراف الجرائم و التي تمس المصالح الخاصة للأفراد .
و بناء على ذلك فإن أي تدخل تشريعي يجب أن يكون منطلقا من الواقع القانوني الذي يؤطر مركز و دور الضحية في القانون الحالي حتى نتمكن من رصد النواقص التي تشوب هذا القانون و البحث عن مواطن القوة التي يمكن أن نؤسس عليها غي أي إصلاح تشريعي مستقبلي .صحيح أن المغرب عضو فاعل في المنتظم الدولي ، وخاصة في المجال المتعلق بحقو الإنسان ، غير أنه لا يجب اختزال تلك الحقوق في حق المتهم في محاكمة عادلة ، و إنما يجب أن تكون المحاكمة عادلة بالنسبة للضحايا أيضا . و لذلك فإنه من اللازم أن تضمن للضحية مجموعة من الحقوق المسطرية إلى جانب الأدوار التي يمكن أن تسند إليه من أجل المساهمة في تخليق المجتمع .
و عليه فإن نظرة المشرع للضحية يجب أن تنطلق من كون المجتمع و المتهم و الضحية ” ثلاثي ” مهم في سير الخصومة الجنائية ، إذ في الوقت الذي يشعر فيه كل طرف من هذه الأطراف بأن له حقوق و عليه التزامات خلال مراحل الخصومة الجنائية فإنه لابد من أن يساهم بالقدر الكافي من أجل ضمان فكرة المحاكمة العادلة ، خاصة و أن الدور الذي سيناط بكل طرف سيجعله مستميتا في الدفاع عن الحقوق بالقدر الذي سيتحمله من التزامات . فحديثنا عن الضحية في هذا السياق يفرض علينا إثارة الانتباه إلى ضرورة رفع الحظر عن إمكانية لعب دور مزدوج في الخصومة الجنائية ، دور في الدعوى العمومية و آخر في الدعوى المدنية التابعة . و تفسير ذلك يمكن في كون النظرة التشريعية المقيدة لدور أو مركز الضحية في الخصومة الجنائية كما سبقت الإشارة إليه أعلاه يجب أن ترتفع ، و نقصد في هذا السياق ما نصت عليه المادة 354 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أنه : ” … غير أن الشخص الذي استمع إليه بالجلسة بصفته شاهدا بعد أدائه اليمين، لا يمكنه بعد ذلك أن يتقدم بصفته طرفا مدنيا. ” إذ لا معنى لوجود هذا التناقض في الوقت الذي توجد من الآليات المسطرية ما يكفل في تحقيق العدالة الجنائية المرجوة . و لنا في ذلك مجموعة من الأدلة يمكن الاستناد عليها نذكر منها ما يلي :
أولا : أن الشهادة التي يدلي بها الشهود لا يمكن الاستغناء عنها لمجرد الادعاء بوجود عداوة أو خصومة بين الشاهد و المتهم ، و دليل ذلك ما ينص عليه المشرع ذاته في المادة 122 التي تنص على أنه : ” يطلب من الشهود، قبل سماع شهادتهم حول الوقائع، أن يبينوا أسماءهم العائلية والشخصية وسنهم وحالتهم العائلية ومهنتهم ومحل سكناهم، وعند الاقتضاء قبيلتهم و الفخذة التي ينتمون إليها وما يربطهم بالأطراف من قرابة أو مصاهرة ودرجة هذه العلاقة إن وجدت، وما إذا كانوا يعملون تحت إمرة أحد الأطراف أو هم من فاقدي الأهلية. ينص في المحضر على هذه الأسئلة والأجوبة عنها. يجوز أن تتلى على الشهود المقتضيات الجنائية المتعلقة بالمعاقبة على شهادة الزور. ” و كما هو معلوم فإن مقتضى هذه المادة يتعلق بأداء الشهادة خلال مرحلة التحقيق الإعدادي ، كما أنه من الملاحظ أنها لا تتضمن أية إشارة لأي ذكر للعداوة أو الخصومة بين الشاهد و المتهم و هو ما يجعل إمكانية الاستماع للشاهد متى كانت شهادته منتجة من غير التفات لأي عارض من عوارض الشهادة ، و هو ما يؤكد تنصيص المشرع على ضرورة تضمين الأجوبة على تلك الأسلة في المحضر من غير إلزام للقاضي بضرورة استبعاد أو عدم استبعاد أقوال الشاهد .
و لعل ما ذهبت إليه المادة 122 تعززه المادة 330 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص جاء فيها ما يلي : ” يستمع إلى الشهود فرادى بعد استنطاق المتهم. يستفسر الرئيس كل شاهد عن اسمه العائلي واسمه الشخصي وسنه وحالته ومهنته ومحل إقامته، وعند الاقتضاء، عن قبيلته وعن فخذته الأصلية، وما إذا كانت تربطه بالمتهم أو الطرف المدني قرابة أو مصاهرة ودرجتهما أو علاقة عمل أو كانت تربطه بهما أية علاقة أو بينهما عداوة أو خصومة. ويسأله كذلك عما إذا كان محروما من أهلية أداء الشهادة. ” إذ أن هذه المادة و كما هو ملاحظ تكتفي فقط بالإشارة إلى ضرورة استفسار الشاهد عن بعض المسائل منها العداوة و الخصومة؛ غير أن هذا الاستفسار لا يمكن أن يُفسر تعسفا بأنه حرمان أداء الشهادة أو نفي لوجوب أدائها . فما نصت عليه المادة يدل على ضرورة تبيان ما إذا كانت هناك أية عداوة أو خصومة بين الشاهد و المتهم فقط ، و لم يبين المشرع ما إذا كان من الواجب على القضاء أن يتثبت من تلك الخصومة أو العداوة ، وإنما هي مجرد ادعاء يكتفى بضرورة تضمينه في المحضر باعتباره واقعة من الوقائع .و على ذلك فإن الضحية الذي تعرض لاعتداء جراء اقتراف الجريمة من طرف المتهم يمكن له أن يؤدي شهادته على ما وقع ، و هو الأمر الذي يدخل في عموم مفهوم الشاهد لانتفاء ما يستثنيه من هذا الحكم . و لعل معترضا يعترض على هذا القول مستدلا بوجود العداوة و الخصومة بين الضحية و المتهم ، , لذلك يجب استبعاد شهادة الضحية ، و الرد على هذا القول يكمن في مقتضى المادة 330 نفسها إذ أنها تشير إلى مجرد الاستفسار و ليس التحقق مما إذا ثبتت تلك العداوة أو الخصومة من جهة ، ثم إنه من جهة أخرى لا يمكن الاستناد على مجرد الادعاء بوجود العداوة أو الخصومة من أجل استبعاد أي شخص من أداء الشهادة . فادعاء الخصومة من الشاهد الضحية في هذه الحالة لا يزال مجردا و لم تقم عليه الحجة و لا يمكن للمحكمة أن تستند عليه ما دامت هذه الأخيرة لا تقيم قضاءها إلا على حجج اليقينية و ليس على مجرد الشك و اليقين أو الادعاء و مجرد التصريح .هذا من جهة ، و من جهة أخرى فإن القول بإمكانية أداء الضحية للشهادة مع الحفاظ على حقه في الدفاع عن حقوقه المدنية يمكن أن يستند على ما تقتضيه المادة 286 التي تنص على أنه : ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقاً للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده. ” و يدخل في مفهوم العموم أداء الشهادة من أي شخص كان و لوكان هو الضحية نفسه . إذ في هذه الحالة سيعتبر شاهدا و أقواله تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات لا غير كما أنه لا يوجد من يمنع أداء الشهادة من طرف الضحية على النحو الذي فصلناه في المبرر الأول . و يبقى للمحكمة أن تستشف من شهادة الشاهد ما تراه منتجا في القضية و تحكم حسب ما استقر إليه وجدانها و اقتناعها الصميم . و لا يناقض أداء الضحيةِ الشهادةَ حق المتهم في مناقشة ما أفضى به الضحية من أقوال ، خاصة وأن المشرع ألزم المحكمة بضرورة بناء حكمها على الحجج الذي عرضت أمامها و نوقشت شفاهيا بين الأطراف وفق ما دلت عليه المادة 387 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أنه : ” لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهياً وحضورياً أمامها. ” و ما دام أن المتهم يبقى محقا في الاستماع إلى شهادة الشهود عموما و شهادة الضحية على وجه الخصوص و أن تلك الشهادة أديت أمام المحكمة و نوقشت شفاهيا ، فإنه لا مجال للحديث عن عدم إمكانية اعتبار الضحية شاهدا و مطالبا بحق المدني في آن واحد . و بناء عليه فإن ما ذهب إليه المشرع في المادة 354 من قانون المسطرة الجنائية يعبر عن نوع من التناقض القائم بين المقتضيات القانونية التي سنها ذات المشرع . و انتصار للنظرة التقليدية لدور الضحية في الخصومة الجنائية عموما . كما أن في ذلك تجن على سلطة المحكمة و استباق لحكم المحكمة من كونها ستركن لشهادة الشاهد لا محالة ، و هو ما يعطي يكشف عن النظرة التجزيئية التي ينظر بها المشرع ذاته للسلطة التقديرية التي تتمتع بها المحكمة و لمبدإ اقتناعها الصميم .و على ذلك فإن اية نظرة شمولية و متكاملة و ناضجة للضحية في التشريع المغربي يجب أن تنطلق من إمكانية أن يضمن لها مركز قانونية متميز يجعلها تقتضي حقها عن الضرر الذي لحق بها من جراء الاعتداء الجرمي ، و كذا دورها الذي يمكن أن تلعبه باعتبارها عاشت حقيقة الأحداث المكونة للجريمة . و مما تجدر الإشارة إليه أيضا في سياق الحديث عن إعادة النظر في التصور التشريعي للضحية ، هو ضرورة إعادة النظر في مفهوم الضرر المنشئ لحق الضحية في التعويض .فكما هو معلوم فإن المشرع أعطى لكل من تضرر منذ جريمة الحق في التقدم بطلباته للتعويض أمام المحكمة الزجرية التي تنظر في الدعوى العمومية وفق الأحوال التي نص عليها المشرع ، لكن التساؤل الذي يجب أن نجيب عنه هو ما المقصود بالضرر حقيقة و ما نطاقه و من هم الأشخاص المتضررون و قبل هذا و ذاك ما هو مصدر الضرر الذي أصاب الضحية المطالبة بالتعويض ؟أسئلة و غيرها ترتبط بضورة إعادة النظر في مقتضيات بعض مواد لمسطرة الجنائية و كذا إعادة النظر في دلالات بعض المفردات القانونية و إعطائها مدلولاتها الحقيقة بدل التشبث بالمدلولات الصورية . بالرجوع إلى المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أنه : ” يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة، لكل من تعرض شخصياً لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة. … ” إذ تعتبر هذه المادة منطلقا حقيقيا لإعادة النظر في مفهوم الضحية الذي يتجاوز الأشخاص إلى ما يحدث من وقائع يتعرضون لها و أضرار تصيبهم جراء تلك الوقائع .فهذه المادة تعتبر الإطار العام الذي يؤطر النظرة التشريعية لمفهوم الضحية في صورته العامة . و هكذا يتعين علينا التساؤل حول مفهوم الضرر المذكور في المادة و ما الفرق بينه و بين الجريمة . هل هما أمر واحد أم أمران مختلفان ، هل اختلاف استعمال اللفظ يدل على اختلاف الحقل الدلالي أم أن الأمر يبقى واحدا ؟ ذلك أن التركيز على هذه الأسئلة فقط ينطلق من كون باقي ما ذكرته المادة لا يعدو أن يكون مجرد صور للضرر سواء أكان جسمانيا أو ماديا أو معنويا ، كما يستوي في ذلك وصف الضرر بالشخصي و غير الشخصي أو المباشر أو غير المباشر ، فكل تلك أعراض تلحق مفهوم الضرر و لا تدخل في نطاق البحث في حقيقته . لذلك وجب التركيز على مفهوم الضرر في حقيقته و جوهره و النظر فيما إذا كان الضرر المقصود هو الجريمة ذاتها أم غير ذلك ؟ و حتى إذا كان هو الجريمة فهل ذكر لفظ الجريمة يعني تبني المفهوم الجنائي للكلمة أم دلالتها المدنية ؟ مجموعة من الأسئلة وجب الجواب عنها للقول بوجود تصور شامل لمفهوم الضحية بالمعنى الحديث .لذلك فإننا نرى أن مفهوم الضرر الذي يجب اعتماده في قراءة مقتضيات المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية هو المفهوم المدني على اعتبار أن الضرر المستند عليه في المطالبة بالتعويض هو ما يحدث عند ارتكاب الخطأ ، و يستوي في ذلك أن يكون الخطأ عمديا أو غير عمدي . و غني عن البيان أن القانون الجنائي يتحدث عن الخطأين معا كما أن المشرع الجنائي لم يضع صورا للجرائم العمدية فقط و إنما لغير العمدية أيضا . و على ذلك فإن الذي يعني الضحية عند مطالبته بالتعويض ليس هو مخالفة المدعى عليه في الدعوى المدنية لقواعد القانون الجنائي ، و إنما الذي يهمه هو كون ما أتت يد المهتم في الدعوى العمومية هو خطأ ارتكب في حق الضحية أحدث ضررا يستوجب التعويض . فهذه المقاربة التي تنقل دلالة لفظ الجريمة في سياق الحديث عن الدعوى المدنية المقامة أمام القضاء الزجري من الحقل الجنائي إلى الحقل المدني هو ما يستقيم و مفهوم الضحية الذي يرتبط بالضرر و جبره . كما أن التعويض عن الضرر يأخذ طبيعته المدنية الخاصة و ينشِئ لفائدة المتضرر – الضحية – دينا خاصا على عاتق المدين الذي هو المتهم في الدعوى العمومية و المدعى عليه في الدعوى المدنية .إن ما قلناه عن المدلول المدني للفظ الجريمة في المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية ينطبق مع الإطار القانوني الذي يرد فيه لفظ الضحية مقترنا بالمطالبة المدنية و التعويض . و على ذلك فإن إعادة النظر في مركز و دور الضحية في قانون المسطرة الجنائي المغربي يقتضي التعامل مع دلالة لفظ الضحية تعامل بنيوي قائم على أساس حقوقي و قانوني ، لا يقصره على الدعوى العمومية فقط أو الدعوى المدنية فقط و إنما يجب أن يكون تصور المشرع للضحية تصورا شاملا يشمل الدعويين العمومية و المدنية في آن واحد من غير أن يجعل أحدهما يحد الآخر .و كما هو معلوم فإن الضرر المدني غير محصور ، و بالتالي فإن لأي كان ادعاء تعرضه لضرر ، و هو ما يجعل من المناسب فتح المجال أمام كل مدعٍ لضرر من جراء جريمة ما أن يلج للقضاء و لا يوضع أي حد له . و فائدة هذا التوجه هو جعل قواعد قانون المسطرة الجنائية تشكل الإطار العام لجبر الأضرار التي يتعرض لها الأشخاص المتضررون سواء من أفعال مخالفة للقانون الجنائي العام أو للقواعد التي تتضمنها القواعد الجنائية الخاصة أو التشريعات الجنائية الخاصة ؛خاصة و أن تلك التشريعات قد تتحدث عن الجرائم و تفصل فيها في حين قد تغفل الأضرار التي قد تحدث للأشخاص . ففي حالة توسيع دائرة مفهوم الضرر ليشمل كل متضرر فإن أي إغفال تشريعي للوضع القانوني الخاص بالضحية في أي تشريع جنائي خاص يمكن أن يتك تلافيه بما هو مضمون بقانون المسطرة الجنائية .و زيادة على ذلك فإن الأصل في قانون المسطرة الجنائية نفسه أن الدعوى المدنية المقامة أمام القضاء الزجري تطبق عليها قواعد قانون المسطرة المدنية ، و بالتالي لا يحق للمشرع أن يمنع أيا كان من اللجوء إلى ىالقضاء الزجري الذي عليه وحده تقدير ما إذا كان المدعي محقا في ادعاءه أم لا ، كما أن عبارة التضرر المباشر من الجريمة كما ورد ذكره في المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية لا يبرر حصر المتضرر في من وقع عليه الضرر المباشر وإنما كل من لحقه ضرر، شريطة أن يكون هذا الأخير نتيجة الفعل الجرمي الذي ما هو في آخر المطاف إلا خطأ عمدي وفق المدلول المدني المنصوص عليه في الفصلين 77 و 78 من قانون الالتزامات و العقود .و هنا تجدر الإشارة إلى أن هذا النقص الذي تعامل به المشرع مع موضوع الضحية ، يجد صداه في بعض المواد ، ذلك أنه من الناحية التقنية نجد أن مقتضيات المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية كانت في ظل القانون الجاري به العمل و لا تزال في ظل المسودة على الشكل التالي : ” … غير أنه إذا كان الضحية قاصراً وتعرض لاعتداء جرمي ارتكبه في حقه أحد أصوله أو من له عليه رعاية أو كفالة أو سلطة، فإن أمد التقادم يبدأ في السريان من جديد لنفس المدة ابتداء من تاريخ بلوغ الضحية سن الرشد المدني. ” . إذ من الملاحظ أن هذه الصياغة تهدر حقوقا أساسية للضحايا الذي يتعرضون لاعتداءات إجرامية و هم قاصرون ، إذ أن المشرع لم يحمِ إلا الفئة صغيرة السن و التي افترض أنها ستكون عند بلوغها سن الرشد القانوني مكتملة الأهلية ، لذك فقد أعطاها مدة تقادم إضافية من أجل اللجوء إلى العدالة بغرض الاقتصاص من الجاني و خاصة إذا كان ممن له الولاية و السلطة على الضحية . و عليه فإننا نود في هذا المقام إثارة انتباه المشرع إلى ضرورة إيجاد صيغة قانونية تحمي الضحايا القاصرين الذين تُهدر حقوقهم و يبلغون سن الرشد القانوني المدني ( 18 سنة شمسية كاملة ) و قواهم العقلية غير مكتملة أو أهليتهم منعدمة ، و نقترح في هذا السياق أن يجعل قصور أو انعدام الأهلية المدنية للضحية القاصر سببا موقفا للتقادم بمجرد بلوغه سن الرشد القانوني المدني متى ثبت أن قواه العقلية لم تكن لتسمح له باللجوء إلى القضاء خلال المدة القانونية للتقادم و التي تلي بلوغه سن الرشد ، مع الإبقاء على المقتضى الحالي فيما يتعلق بالضحايا القاصرين الذين يبلغون سن الرشد القانوني و قوامهم العقلية مكتملة.إن النظر في موضوع الدعوى المدنية التابعة في نظرنا ، لن تكون له أية أهمية ما لم يعد النظر في المركز القانوني للضحية و دوره بصفة جذرية توخيا لعدالة شاملة تحقق مبدأ المحاكمة العادلة ليس للمتهم فقط و إنما للضحية أيضا ، مع ترجمة ذلك في شكل مقتضيات قانونية متقدمة و شمولية و تضمن نوعا من التكامل ليس بين بنود تفي قانون المسطرة الجنائية و إنما مع التشريعات الجنائية الخاصة سواء الحالية في صيغتها الحالية أو المحتملة و كذا تلك القادمة ، ضمانا لفكرة التناغم في التشريع بدل ترك الهفوات التي تدفع إلى التدخل التشريعي المتكرر.
و بناء على ذلك فإن أي تدخل تشريعي يجب أن يكون منطلقا من الواقع القانوني الذي يؤطر مركز و دور الضحية في القانون الحالي حتى نتمكن من رصد النواقص التي تشوب هذا القانون و البحث عن مواطن القوة التي يمكن أن نؤسس عليها غي أي إصلاح تشريعي مستقبلي .صحيح أن المغرب عضو فاعل في المنتظم الدولي ، وخاصة في المجال المتعلق بحقو الإنسان ، غير أنه لا يجب اختزال تلك الحقوق في حق المتهم في محاكمة عادلة ، و إنما يجب أن تكون المحاكمة عادلة بالنسبة للضحايا أيضا . و لذلك فإنه من اللازم أن تضمن للضحية مجموعة من الحقوق المسطرية إلى جانب الأدوار التي يمكن أن تسند إليه من أجل المساهمة في تخليق المجتمع .
و عليه فإن نظرة المشرع للضحية يجب أن تنطلق من كون المجتمع و المتهم و الضحية ” ثلاثي ” مهم في سير الخصومة الجنائية ، إذ في الوقت الذي يشعر فيه كل طرف من هذه الأطراف بأن له حقوق و عليه التزامات خلال مراحل الخصومة الجنائية فإنه لابد من أن يساهم بالقدر الكافي من أجل ضمان فكرة المحاكمة العادلة ، خاصة و أن الدور الذي سيناط بكل طرف سيجعله مستميتا في الدفاع عن الحقوق بالقدر الذي سيتحمله من التزامات . فحديثنا عن الضحية في هذا السياق يفرض علينا إثارة الانتباه إلى ضرورة رفع الحظر عن إمكانية لعب دور مزدوج في الخصومة الجنائية ، دور في الدعوى العمومية و آخر في الدعوى المدنية التابعة . و تفسير ذلك يمكن في كون النظرة التشريعية المقيدة لدور أو مركز الضحية في الخصومة الجنائية كما سبقت الإشارة إليه أعلاه يجب أن ترتفع ، و نقصد في هذا السياق ما نصت عليه المادة 354 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أنه : ” … غير أن الشخص الذي استمع إليه بالجلسة بصفته شاهدا بعد أدائه اليمين، لا يمكنه بعد ذلك أن يتقدم بصفته طرفا مدنيا. ” إذ لا معنى لوجود هذا التناقض في الوقت الذي توجد من الآليات المسطرية ما يكفل في تحقيق العدالة الجنائية المرجوة . و لنا في ذلك مجموعة من الأدلة يمكن الاستناد عليها نذكر منها ما يلي :
أولا : أن الشهادة التي يدلي بها الشهود لا يمكن الاستغناء عنها لمجرد الادعاء بوجود عداوة أو خصومة بين الشاهد و المتهم ، و دليل ذلك ما ينص عليه المشرع ذاته في المادة 122 التي تنص على أنه : ” يطلب من الشهود، قبل سماع شهادتهم حول الوقائع، أن يبينوا أسماءهم العائلية والشخصية وسنهم وحالتهم العائلية ومهنتهم ومحل سكناهم، وعند الاقتضاء قبيلتهم و الفخذة التي ينتمون إليها وما يربطهم بالأطراف من قرابة أو مصاهرة ودرجة هذه العلاقة إن وجدت، وما إذا كانوا يعملون تحت إمرة أحد الأطراف أو هم من فاقدي الأهلية. ينص في المحضر على هذه الأسئلة والأجوبة عنها. يجوز أن تتلى على الشهود المقتضيات الجنائية المتعلقة بالمعاقبة على شهادة الزور. ” و كما هو معلوم فإن مقتضى هذه المادة يتعلق بأداء الشهادة خلال مرحلة التحقيق الإعدادي ، كما أنه من الملاحظ أنها لا تتضمن أية إشارة لأي ذكر للعداوة أو الخصومة بين الشاهد و المتهم و هو ما يجعل إمكانية الاستماع للشاهد متى كانت شهادته منتجة من غير التفات لأي عارض من عوارض الشهادة ، و هو ما يؤكد تنصيص المشرع على ضرورة تضمين الأجوبة على تلك الأسلة في المحضر من غير إلزام للقاضي بضرورة استبعاد أو عدم استبعاد أقوال الشاهد .
و لعل ما ذهبت إليه المادة 122 تعززه المادة 330 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص جاء فيها ما يلي : ” يستمع إلى الشهود فرادى بعد استنطاق المتهم. يستفسر الرئيس كل شاهد عن اسمه العائلي واسمه الشخصي وسنه وحالته ومهنته ومحل إقامته، وعند الاقتضاء، عن قبيلته وعن فخذته الأصلية، وما إذا كانت تربطه بالمتهم أو الطرف المدني قرابة أو مصاهرة ودرجتهما أو علاقة عمل أو كانت تربطه بهما أية علاقة أو بينهما عداوة أو خصومة. ويسأله كذلك عما إذا كان محروما من أهلية أداء الشهادة. ” إذ أن هذه المادة و كما هو ملاحظ تكتفي فقط بالإشارة إلى ضرورة استفسار الشاهد عن بعض المسائل منها العداوة و الخصومة؛ غير أن هذا الاستفسار لا يمكن أن يُفسر تعسفا بأنه حرمان أداء الشهادة أو نفي لوجوب أدائها . فما نصت عليه المادة يدل على ضرورة تبيان ما إذا كانت هناك أية عداوة أو خصومة بين الشاهد و المتهم فقط ، و لم يبين المشرع ما إذا كان من الواجب على القضاء أن يتثبت من تلك الخصومة أو العداوة ، وإنما هي مجرد ادعاء يكتفى بضرورة تضمينه في المحضر باعتباره واقعة من الوقائع .و على ذلك فإن الضحية الذي تعرض لاعتداء جراء اقتراف الجريمة من طرف المتهم يمكن له أن يؤدي شهادته على ما وقع ، و هو الأمر الذي يدخل في عموم مفهوم الشاهد لانتفاء ما يستثنيه من هذا الحكم . و لعل معترضا يعترض على هذا القول مستدلا بوجود العداوة و الخصومة بين الضحية و المتهم ، , لذلك يجب استبعاد شهادة الضحية ، و الرد على هذا القول يكمن في مقتضى المادة 330 نفسها إذ أنها تشير إلى مجرد الاستفسار و ليس التحقق مما إذا ثبتت تلك العداوة أو الخصومة من جهة ، ثم إنه من جهة أخرى لا يمكن الاستناد على مجرد الادعاء بوجود العداوة أو الخصومة من أجل استبعاد أي شخص من أداء الشهادة . فادعاء الخصومة من الشاهد الضحية في هذه الحالة لا يزال مجردا و لم تقم عليه الحجة و لا يمكن للمحكمة أن تستند عليه ما دامت هذه الأخيرة لا تقيم قضاءها إلا على حجج اليقينية و ليس على مجرد الشك و اليقين أو الادعاء و مجرد التصريح .هذا من جهة ، و من جهة أخرى فإن القول بإمكانية أداء الضحية للشهادة مع الحفاظ على حقه في الدفاع عن حقوقه المدنية يمكن أن يستند على ما تقتضيه المادة 286 التي تنص على أنه : ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقاً للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده. ” و يدخل في مفهوم العموم أداء الشهادة من أي شخص كان و لوكان هو الضحية نفسه . إذ في هذه الحالة سيعتبر شاهدا و أقواله تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات لا غير كما أنه لا يوجد من يمنع أداء الشهادة من طرف الضحية على النحو الذي فصلناه في المبرر الأول . و يبقى للمحكمة أن تستشف من شهادة الشاهد ما تراه منتجا في القضية و تحكم حسب ما استقر إليه وجدانها و اقتناعها الصميم . و لا يناقض أداء الضحيةِ الشهادةَ حق المتهم في مناقشة ما أفضى به الضحية من أقوال ، خاصة وأن المشرع ألزم المحكمة بضرورة بناء حكمها على الحجج الذي عرضت أمامها و نوقشت شفاهيا بين الأطراف وفق ما دلت عليه المادة 387 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أنه : ” لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهياً وحضورياً أمامها. ” و ما دام أن المتهم يبقى محقا في الاستماع إلى شهادة الشهود عموما و شهادة الضحية على وجه الخصوص و أن تلك الشهادة أديت أمام المحكمة و نوقشت شفاهيا ، فإنه لا مجال للحديث عن عدم إمكانية اعتبار الضحية شاهدا و مطالبا بحق المدني في آن واحد . و بناء عليه فإن ما ذهب إليه المشرع في المادة 354 من قانون المسطرة الجنائية يعبر عن نوع من التناقض القائم بين المقتضيات القانونية التي سنها ذات المشرع . و انتصار للنظرة التقليدية لدور الضحية في الخصومة الجنائية عموما . كما أن في ذلك تجن على سلطة المحكمة و استباق لحكم المحكمة من كونها ستركن لشهادة الشاهد لا محالة ، و هو ما يعطي يكشف عن النظرة التجزيئية التي ينظر بها المشرع ذاته للسلطة التقديرية التي تتمتع بها المحكمة و لمبدإ اقتناعها الصميم .و على ذلك فإن اية نظرة شمولية و متكاملة و ناضجة للضحية في التشريع المغربي يجب أن تنطلق من إمكانية أن يضمن لها مركز قانونية متميز يجعلها تقتضي حقها عن الضرر الذي لحق بها من جراء الاعتداء الجرمي ، و كذا دورها الذي يمكن أن تلعبه باعتبارها عاشت حقيقة الأحداث المكونة للجريمة . و مما تجدر الإشارة إليه أيضا في سياق الحديث عن إعادة النظر في التصور التشريعي للضحية ، هو ضرورة إعادة النظر في مفهوم الضرر المنشئ لحق الضحية في التعويض .فكما هو معلوم فإن المشرع أعطى لكل من تضرر منذ جريمة الحق في التقدم بطلباته للتعويض أمام المحكمة الزجرية التي تنظر في الدعوى العمومية وفق الأحوال التي نص عليها المشرع ، لكن التساؤل الذي يجب أن نجيب عنه هو ما المقصود بالضرر حقيقة و ما نطاقه و من هم الأشخاص المتضررون و قبل هذا و ذاك ما هو مصدر الضرر الذي أصاب الضحية المطالبة بالتعويض ؟أسئلة و غيرها ترتبط بضورة إعادة النظر في مقتضيات بعض مواد لمسطرة الجنائية و كذا إعادة النظر في دلالات بعض المفردات القانونية و إعطائها مدلولاتها الحقيقة بدل التشبث بالمدلولات الصورية . بالرجوع إلى المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أنه : ” يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة، لكل من تعرض شخصياً لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة. … ” إذ تعتبر هذه المادة منطلقا حقيقيا لإعادة النظر في مفهوم الضحية الذي يتجاوز الأشخاص إلى ما يحدث من وقائع يتعرضون لها و أضرار تصيبهم جراء تلك الوقائع .فهذه المادة تعتبر الإطار العام الذي يؤطر النظرة التشريعية لمفهوم الضحية في صورته العامة . و هكذا يتعين علينا التساؤل حول مفهوم الضرر المذكور في المادة و ما الفرق بينه و بين الجريمة . هل هما أمر واحد أم أمران مختلفان ، هل اختلاف استعمال اللفظ يدل على اختلاف الحقل الدلالي أم أن الأمر يبقى واحدا ؟ ذلك أن التركيز على هذه الأسئلة فقط ينطلق من كون باقي ما ذكرته المادة لا يعدو أن يكون مجرد صور للضرر سواء أكان جسمانيا أو ماديا أو معنويا ، كما يستوي في ذلك وصف الضرر بالشخصي و غير الشخصي أو المباشر أو غير المباشر ، فكل تلك أعراض تلحق مفهوم الضرر و لا تدخل في نطاق البحث في حقيقته . لذلك وجب التركيز على مفهوم الضرر في حقيقته و جوهره و النظر فيما إذا كان الضرر المقصود هو الجريمة ذاتها أم غير ذلك ؟ و حتى إذا كان هو الجريمة فهل ذكر لفظ الجريمة يعني تبني المفهوم الجنائي للكلمة أم دلالتها المدنية ؟ مجموعة من الأسئلة وجب الجواب عنها للقول بوجود تصور شامل لمفهوم الضحية بالمعنى الحديث .لذلك فإننا نرى أن مفهوم الضرر الذي يجب اعتماده في قراءة مقتضيات المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية هو المفهوم المدني على اعتبار أن الضرر المستند عليه في المطالبة بالتعويض هو ما يحدث عند ارتكاب الخطأ ، و يستوي في ذلك أن يكون الخطأ عمديا أو غير عمدي . و غني عن البيان أن القانون الجنائي يتحدث عن الخطأين معا كما أن المشرع الجنائي لم يضع صورا للجرائم العمدية فقط و إنما لغير العمدية أيضا . و على ذلك فإن الذي يعني الضحية عند مطالبته بالتعويض ليس هو مخالفة المدعى عليه في الدعوى المدنية لقواعد القانون الجنائي ، و إنما الذي يهمه هو كون ما أتت يد المهتم في الدعوى العمومية هو خطأ ارتكب في حق الضحية أحدث ضررا يستوجب التعويض . فهذه المقاربة التي تنقل دلالة لفظ الجريمة في سياق الحديث عن الدعوى المدنية المقامة أمام القضاء الزجري من الحقل الجنائي إلى الحقل المدني هو ما يستقيم و مفهوم الضحية الذي يرتبط بالضرر و جبره . كما أن التعويض عن الضرر يأخذ طبيعته المدنية الخاصة و ينشِئ لفائدة المتضرر – الضحية – دينا خاصا على عاتق المدين الذي هو المتهم في الدعوى العمومية و المدعى عليه في الدعوى المدنية .إن ما قلناه عن المدلول المدني للفظ الجريمة في المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية ينطبق مع الإطار القانوني الذي يرد فيه لفظ الضحية مقترنا بالمطالبة المدنية و التعويض . و على ذلك فإن إعادة النظر في مركز و دور الضحية في قانون المسطرة الجنائي المغربي يقتضي التعامل مع دلالة لفظ الضحية تعامل بنيوي قائم على أساس حقوقي و قانوني ، لا يقصره على الدعوى العمومية فقط أو الدعوى المدنية فقط و إنما يجب أن يكون تصور المشرع للضحية تصورا شاملا يشمل الدعويين العمومية و المدنية في آن واحد من غير أن يجعل أحدهما يحد الآخر .و كما هو معلوم فإن الضرر المدني غير محصور ، و بالتالي فإن لأي كان ادعاء تعرضه لضرر ، و هو ما يجعل من المناسب فتح المجال أمام كل مدعٍ لضرر من جراء جريمة ما أن يلج للقضاء و لا يوضع أي حد له . و فائدة هذا التوجه هو جعل قواعد قانون المسطرة الجنائية تشكل الإطار العام لجبر الأضرار التي يتعرض لها الأشخاص المتضررون سواء من أفعال مخالفة للقانون الجنائي العام أو للقواعد التي تتضمنها القواعد الجنائية الخاصة أو التشريعات الجنائية الخاصة ؛خاصة و أن تلك التشريعات قد تتحدث عن الجرائم و تفصل فيها في حين قد تغفل الأضرار التي قد تحدث للأشخاص . ففي حالة توسيع دائرة مفهوم الضرر ليشمل كل متضرر فإن أي إغفال تشريعي للوضع القانوني الخاص بالضحية في أي تشريع جنائي خاص يمكن أن يتك تلافيه بما هو مضمون بقانون المسطرة الجنائية .و زيادة على ذلك فإن الأصل في قانون المسطرة الجنائية نفسه أن الدعوى المدنية المقامة أمام القضاء الزجري تطبق عليها قواعد قانون المسطرة المدنية ، و بالتالي لا يحق للمشرع أن يمنع أيا كان من اللجوء إلى ىالقضاء الزجري الذي عليه وحده تقدير ما إذا كان المدعي محقا في ادعاءه أم لا ، كما أن عبارة التضرر المباشر من الجريمة كما ورد ذكره في المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية لا يبرر حصر المتضرر في من وقع عليه الضرر المباشر وإنما كل من لحقه ضرر، شريطة أن يكون هذا الأخير نتيجة الفعل الجرمي الذي ما هو في آخر المطاف إلا خطأ عمدي وفق المدلول المدني المنصوص عليه في الفصلين 77 و 78 من قانون الالتزامات و العقود .و هنا تجدر الإشارة إلى أن هذا النقص الذي تعامل به المشرع مع موضوع الضحية ، يجد صداه في بعض المواد ، ذلك أنه من الناحية التقنية نجد أن مقتضيات المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية كانت في ظل القانون الجاري به العمل و لا تزال في ظل المسودة على الشكل التالي : ” … غير أنه إذا كان الضحية قاصراً وتعرض لاعتداء جرمي ارتكبه في حقه أحد أصوله أو من له عليه رعاية أو كفالة أو سلطة، فإن أمد التقادم يبدأ في السريان من جديد لنفس المدة ابتداء من تاريخ بلوغ الضحية سن الرشد المدني. ” . إذ من الملاحظ أن هذه الصياغة تهدر حقوقا أساسية للضحايا الذي يتعرضون لاعتداءات إجرامية و هم قاصرون ، إذ أن المشرع لم يحمِ إلا الفئة صغيرة السن و التي افترض أنها ستكون عند بلوغها سن الرشد القانوني مكتملة الأهلية ، لذك فقد أعطاها مدة تقادم إضافية من أجل اللجوء إلى العدالة بغرض الاقتصاص من الجاني و خاصة إذا كان ممن له الولاية و السلطة على الضحية . و عليه فإننا نود في هذا المقام إثارة انتباه المشرع إلى ضرورة إيجاد صيغة قانونية تحمي الضحايا القاصرين الذين تُهدر حقوقهم و يبلغون سن الرشد القانوني المدني ( 18 سنة شمسية كاملة ) و قواهم العقلية غير مكتملة أو أهليتهم منعدمة ، و نقترح في هذا السياق أن يجعل قصور أو انعدام الأهلية المدنية للضحية القاصر سببا موقفا للتقادم بمجرد بلوغه سن الرشد القانوني المدني متى ثبت أن قواه العقلية لم تكن لتسمح له باللجوء إلى القضاء خلال المدة القانونية للتقادم و التي تلي بلوغه سن الرشد ، مع الإبقاء على المقتضى الحالي فيما يتعلق بالضحايا القاصرين الذين يبلغون سن الرشد القانوني و قوامهم العقلية مكتملة.إن النظر في موضوع الدعوى المدنية التابعة في نظرنا ، لن تكون له أية أهمية ما لم يعد النظر في المركز القانوني للضحية و دوره بصفة جذرية توخيا لعدالة شاملة تحقق مبدأ المحاكمة العادلة ليس للمتهم فقط و إنما للضحية أيضا ، مع ترجمة ذلك في شكل مقتضيات قانونية متقدمة و شمولية و تضمن نوعا من التكامل ليس بين بنود تفي قانون المسطرة الجنائية و إنما مع التشريعات الجنائية الخاصة سواء الحالية في صيغتها الحالية أو المحتملة و كذا تلك القادمة ، ضمانا لفكرة التناغم في التشريع بدل ترك الهفوات التي تدفع إلى التدخل التشريعي المتكرر.
دراسة علمية لمسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ـ ( الجزء الثالث )
Reviewed by Unknown
on
3:29:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: